مقالات مختارة
من الناحية التاريخية والسياسية البحتة، لا توجد دولة "أبدية"، فالتاريخ مليء بإمبراطوريات ودول عظمى صعدت ثم اختفت أو تغيرت هويتها بالكامل. ولكن عند الحديث عن (إسرائيل) تحديداً في الوقت الراهن، فإن الإجابة تتطلب تفكيك مفهوم "الزوال" والنظر في السيناريوهات المطروحة
اولاً التحديات الداخلية (التآكل من الداخل)، يرى العديد من المحللين أن الخطر الأكبر على استمرار الكيان ليس عسكرياً خارجياً بقدر ما هو داخلي، ويشمل
- الانقسام المجتمعي الحاد، تشهد إسرائيل انقسامات عميقة بين "العلمانيين" و"المتدينين" (الحريديم)، وبين "اليمين" و"اليسار". هذه الانقسامات وصلت إلى ذروتها في أزمات سياسية أخيرة (مثل التعديلات القضائية)، مما يهدد تماسك الجبهة الداخلية وقدرة الدولة على العمل كمؤسسة موحدة.
- القنبلة الديموغرافية، التحدي الديموغرافي يتمثل في التوازن بين عدد العرب واليهود بين النهر والبحر. تزايد أعداد الفلسطينيين يضع إسرائيل أمام خيارين صعبين: إما دولة واحدة تفقد فيها الغالبية اليهودية (نهاية فكرة "الدولة اليهودية")، أو نظام فصل عنصري قد يؤدي إلى عزلة دولية وانهيار الشرعية.
- "لعنة العقد الثامن", هذا مصطلح يتداوله سياسيون ومؤرخون إسرائيليون (مثل إيهود باراك)، يشير إلى أن الممالك اليهودية تاريخياً لم تعمّر أكثر من 80 عاماً قبل أن تنهار بسبب الصراعات الداخلية.
ثانياً التحديات الخارجية والعسكرية على الرغم من التفوق العسكري، هناك تحديات وجودية تتم مناقشتها
- تآكل الردع، صعود قوى غير نظامية وحركات مقاومة مسلحة تعتمد "حرب الاستنزاف" بدلاً من الحروب الكلاسيكية، مما يجعل التفوق التكنولوجي والجوي أقل حسماً، ويستنزف المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين على المدى الطويل.
- المحيط الإقليمي، رغم اتفاقيات التطبيع، لا تزال إسرائيل تعتبر "جسماً غريباً" في محيط عربي وإسلامي واسع يرفض وجودها شعبيًا وعقائديًا، مما يبقي حالة الصراع مستمرة وقابلة للانفجار في أي لحظة.
ثالثاً العزلة الدولية ونزع الشرعية، هناك تحول ملحوظ في الرأي العام الغربي (خاصة بين فئة الشباب في الولايات المتحدة وأوروبا) تجاه (إسرائيل)، حيث تزداد الانتقادات لسياساتها.
ان استمرار الكيان يعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري والسياسي الأمريكي، أي تغير جذري في السياسة الأمريكية مستقبلاً قد يضع (إسرائيل) في مأزق وجودي حقيقي.
عندما يتحدث المحللون عن "زوال إسرائيل"، فإنهم يقصدون أحد السيناريوهات التالية:
- الزوال العسكري, هزيمة عسكرية ساحقة تؤدي إلى تفكك الدولة,هذا السيناريو يعتبره الخبراء العسكريون صعباً جداً حالياً بسبب الترسانة النووية الإسرائيلية (ما يعرف بـ "خيار شمشون") والتفوق التكنولوجي والدعم الغربي.
- التحول إلى دولة واحدة، زوال "الفكرة الصهيونية" (دولة حصرية لليهود) وتحولها إلى "دولة لجميع مواطنيها" ديمقراطية تضم الفلسطينيين واليهود بحقوق متساوية، هنا تزول "إسرائيل" بصيغتها الحالية وتبقى البنية التحتية والسكان ضمن نظام سياسي جديد.
- الانهيار الداخلي والهجرة العكسية، إذا استمرت الصراعات الداخلية وتدهور الوضع الأمني، قد يلجأ قطاع واسع من الإسرائيليين (الذين يحملون جوازات سفر أجنبية) إلى الهجرة العكسية، مما يفرغ الدولة من نخبها الاقتصادية والعلمية ويؤدي إلى انهيارها ببطء.
عليه فانه من الناحية الواقعية الحالية، (إسرائيل) تمتلك قوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية هائلة، بالإضافة إلى شبكة تحالفات دولية قوية تجعل زوالها القسري والسريع أمراً مستبعداً في المدى المنظور.
ومع ذلك، فإن "الزوال" كعملية تاريخية نتيجة عوامل داخلية (ديموغرافيا، انقسامات) أو تغيرات جيوسياسية كبرى هو احتمال قائم نظرياً ويناقش بجدية، ليس فقط من قبل قوى المقاومة، بل من قبل مفكريها الذين يحذرون من أن الخطر الحقيقي يكمن في الداخل وليس الخارج.
اما عند النظر إلى مسألة الزوال من المنظور الديني الإسلامي، فإن الطرح يختلف تماماً عن التحليل السياسي أو العسكري، فهو ينتقل من دائرة "الاحتمالات" إلى دائرة "اليقين العقائدي", يُنظر إلى زوال هذا الكيان كحتمية قرآنية وتاريخية، وتستند هذه الرؤية إلى عدة ركائز أساسية
اولاً نبوءة سورة "الإسراء" (وعد الآخرة)، الآيات الأولى من سورة الإسراء تتحدث عن "إفسادين" لبني إسرائيل في الأرض، وعلو كبير لهم ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾، يرى كثير من المفسرين المعاصرين أن الإفساد الأول قد حدث وانتهى في الماضي (على يد البابليين)، وأننا نعيش الآن زمن "الإفساد الثاني" و"العلو الكبير" الذي تتمتع به (إسرائيل) حالياً من قوة وسيطرة وتفوق
ثانياً أحاديث آخر الزمان (الملاحم) توجد في السنة النبوية أحاديث صحيحة تتحدث عن صراع نهائي بين المسلمين واليهود وارتباطها بقرب قيام الساعة، أشهر هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون...".هذا الحديث دليل على أن الوجود الحالي (لإسرائيل) ليس نهائياً، وأن هناك مواجهة فاصلة ستنتهي بانتصار المسلمين وزوال الهيمنة (الإسرائيلية)، وارتباط ذلك بنزول سيدنا عيسى عليه السلام وظهور المهدي في آخر الزمان، مما يجعل المعركة ذات طابع ديني عالمي.
ثالثاً سنة الله في الظلم (السنن الكونية) القاعدة الإسلامية تقول إن "العدل أساس الملك"، وأن الله قد ينصر الدولة الكافرة إذا كانت عادلة، ولا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة.
بما أن (إسرائيل)، قائمة على "اغتصاب الحقوق"، والقتل، والاجرام، وتشريد الناس، فإن زوالها هو تطبيق لسنة الله في هلاك الظالمين، كما أهلك من قبل عاداً وثموداً وفرعون، يقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾.
بالعودة لقوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾، نرى أن الله قدر قيام (دولة إسرائيل) وتجمع اليهود من شتى بقاع الأرض (لفيفاً) في مكان واحد (فلسطين)، ليس لدوام ملكهم، ولكن ليكون ذلك مقدمة للمواجهة الفاصلة التي ستنهي وجودهم ككيان مفسد، بدلاً من تتبعهم في أقطار الأرض المتفرقة.
فزوال (إسرائيل) حتمي، والسؤال ليس "هل" ستزول، بل "متى" و"كيف".
يرتبط هذا النصر بشرط إيماني، وهو عودة المسلمين إلى العمل والتمسك بأوامر دينهم ووحدتهم، أن يكونوا "عباداً لنا"، وليس مجرد تفوق عسكري مادي، فالكيان نبتة غريبة في أرض الوقف الإسلامي (فلسطين)، ومآلها الطبيعي والشرعي هو الاقتلاع مهما طال الزمن.
وإذا نظرنا الى قضية الزوال من المنظور العقائدي الصهيوني نجد كثير من المفكرين والمنظرين الصهاينة يخشون مما يعرف بلعنة الـ 80, هذه "العقدة" أو "اللعنة" ليست مجرد خرافة شعبية، بل تستند إلى قراءة للتاريخ اليهودي، وهي تتردد بقوة الآن في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية.
فما هي "لعنة العقد الثامن" تاريخياً؟
التاريخ اليهودي يظهر أن الدول اليهودية المستقلة لم تنجح أبداً في تجاوز عتبة الـ 80 عاماً كدولة موحدة وذات سيادة كاملة. هناك سابقتان تاريخيتان فقط
الدولة الأولى (مملكة داوود وسليمان): استمرت كدولة موحدة لحوالي 80 عاماً فقط. في السنة الـ 81، وبسبب الصراعات الداخلية، انشقت المملكة إلى قسمين متحاربين (مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب)، مما سهل لاحقاً سقوطهما.
الدولة الثانية (مملكة الحشمونيين): تأسست بعد ثورة المكابيين (في القرن الثاني قبل الميلاد). استمرت كدولة يهودية ذات سيادة لحوالي 77-80 عاماً، ثم دبت فيها الخلافات الداخلية بين الأخوين (هيركانوس وأرسطوبولوس)، مما استدعى تدخل الرومان واحتلالهم للقدس، لتفقد استقلالها وتتحول إلى مقاطعة رومانية.
الدولة الثالثة (إسرائيل الحالية) والخوف من الرقم 80
إسرائيل الحالية تعتبر في التاريخ اليهودي "الدولة الثالثة", تأسست عام 1948.
نحن الآن في العقد الثامن من عمرها (تجاوزت الـ 75 عاماً وتقترب من الـ 80 في عام 2028).
يخشى القادة (الإسرائيليون) أن التاريخ يعيد نفسه، وأن "جينات التدمير الذاتي" والانقسام الداخلي التي دمرت الدولتين السابقتين بدأت تظهر بوضوح الآن، وهذا من خلال اعترافات قادة الاحتلال بهذا الخطر، فالأمر ليس سرياً، بل صرح به قادة من الصف الأولابرزهم
- إيهود باراك (رئيس الوزراء الأسبق) كتب مقالاً شهيراً في صحيفة "يديعوت أحرونوت" حذر فيه بوضوح من "لعنة العقد الثامن"، قائلاً إن (إسرائيل) قد تزول قبل حلول الذكرى الثمانين لتأسيسها بسبب الكراهية الداخلية والتعصب، مشيراً إلى أن أمريكا وروسيا وإيطاليا عانوا من حروب أهلية في عقدهم الثامن، لكن إسرائيل لا تملك ترف البقاء بعد حرب أهلية.
- نفتالي بينيت (رئيس الوزراء السابق) في ذروة الأزمة السياسية، حذر من أن (إسرائيل) تقف أمام "لحظة اختبار" تاريخية، وأنها تقترب من التفكك كما حدث لأسلافها مرتين من قبل.
- كذلك رئيس وزراء الكيان الحالي بنيامين نتنياهو، صرح في عدة مناسبات بأن هدفه الأكبر هو ضمان أن تتجاوز (إسرائيل) عامها الثمانين، معترفاً ضمناً بالخطر التاريخي الذي يهدد هذا العمر.
لماذا يبدو "الزوال" وشيكاً بناءً على هذا المعتقد؟
إذا دمجنا المعتقد الديني (اليهودي والإسلامي) مع الواقع، نجد تطابقاً مخيفاً بالنسبة لهم
اولاً ان المجتمع الإسرائيلي منقسم بشكل غير مسبوق (يمين متطرف ديني، ويسار ليبرالي علماني). الكراهية بين الطرفين وصلت لمرحلة تصفها الصحافة العبرية بأنها "أجواء حرب أهلية باردة".
ثانياً الجيش هو "البقرة المقدسة" التي كانت توحد الجميع، الآن، وبسبب الخلافات السياسية وقانون تجنيد المتشددين (الحريديم)، بدأت تظهر انشقاقات ورفض للخدمة، مما يفكك الأداة الوحيدة التي تحمي وجودهم.
ثالثاً فقدان الهدف المشترك، الأجيال الأولى كانت مؤمنة بفكرة "تأسيس الدولة", الجيل الحالي (الجيل الثالث) غارق في الرفاهية أو التطرف، وفقد "روح المحارب" أو التماسك الأيديولوجي.
عندما ننظر إلى الأمر، نجد تقاطعاً مذهلاً للنبوءات بالواقع
- إسلامياً وعد بالتبر والزوال بعد "علو كبير" وإفساد.
- يهودياً خوف تاريخي من "لعنة العقد الثامن" والتفكك الداخلي.
- واقعياً أزمات سياسية واجتماعية وعسكرية غير مسبوقة تضرب الكيان من الداخل.
لذلك، عبارة "على وشك الزوال" ليست مبالغة عاطفية، بل هي سيناريو مرعب بالنسبة للصهاينة أنفسهم، يرونه رأي العين في مظاهراتهم وانقساماتهم، ويعتبرون السنوات القليلة القادمة (حتى 2028) هي السنوات الحاسمة التي ستحدد هل سيكسرون اللعنة أم ستكسرهم هي.
وفي مسار آخر لو نظرنا لتأثير أحداث 7 أكتوبر 2023 "طوفان الأقصى" على نظرية "الزوال" نرى تأثيراً تسريعياً ووجودياً عميقاً، حيث أن هذه الأحداث لم تكن مجرد نكسة عسكرية، بل كانت بمثابة زلزال استراتيجي ضرب ثلاثة أعمدة رئيسية يقوم عليها الكيان الصهيوني, فإذا كانت نظرية الزوال تستند إلى "لعنة العقد الثامن" (الانهيار الداخلي) و"وعد الآخرة" فإن 7 أكتوبر يعتبر حدثاً مفصلياً دفع بكلتا النظريتين إلى الواجهة بقوة غير مسبوقة.
حيث كان جوهر "الوجود الإسرائيلي" يقوم على مقولة "لا يمكن هزيمتنا", لقد ضربت أحداث 7 أكتوبر هذا الجوهر في مقتل، وهذا هو التأثير الأبرز
أ. تآكل "الجدار الحديدي" للأمن الذي لطالما سُوّق للكيان الإسرائيلي على أنه قوة لا يمكن اختراقها، كونها تمتلك أفضل استخبارات في العالم وتكنولوجيا عسكرية متفوقة (القدرة على معرفة كل شيء عن العدو والقدرة على منع أي هجوم محتمل).
انهارت عقيدة "الجدار المنيع", ثبت أن التفوق التكنولوجي والاستخباراتي غير كافٍ أمام العزيمة والإرادة. هذا الانهيار يزعزع ثقة (المواطن الإسرائيلي) في الدولة وقدرتها على توفير أهم التزاماتها له المتمثلة بالأمن الشخصي.
ب. انهيار عقيدة الردع هو أساس بقاء الكيان في محيط عدائي. ويعني أن العدو لا يجرؤ على مهاجمتك خوفاً من ردك، فالنتيجة بعد "طوفان الأقصى", ثبت أن الردع الإسرائيلي قد تآكل، لم يعد الخوف من القوة الإسرائيلية كافياً لمنع المقاومة من القيام بعمليات معقدة وواسعة، وهذا يفتح الباب أمام قوى إقليمية أخرى لتقدير المخاطر بشكل مختلف، مما يضاعف الجبهات المحتملة.
تسريع "لعنة العقد الثامن" (الانهيار الداخلي)، الخطر الأكبر في نظرية العقد الثامن هو الانهيار الذاتي بسبب الشقاق الداخلي وفقدان ثقة الجمهور بقيادته.
أ. أزمة الثقة وشرعية القيادة، قبل 7 أكتوبر، كان الانقسام حول "التعديلات القضائية" (صراع سياسي بين الليبراليين والمتطرفين الدينيين). أما بعد 7 أكتوبر، فقد تحول إلى أزمة ثقة عمودية بين (الشعب) والقيادة (العسكرية والسياسية)، حيث يتهم الجمهور قادته بـ "التقصير الوجودي" والإخفاق الذي لم يسبق له مثيل منذ 1973. هذه الأزمة في الثقة هي بالضبط الوقود الذي غذى انهيار المملكتين اليهوديتين السابقتين في الماضي، حيث تحول التركيز من "التهديد الخارجي" إلى "من يحكمنا وكيف".
ب. تعميق الشرخ المجتمعي، تفاقم الانقسام بين العلمانيين والمتدينين (الحريديم) بشأن التجنيد وعبء الحرب. وبينما يخاطر جنود الاحتياط بحياتهم، يستمر المتدينون في رفض الخدمة العسكرية بحجة التفرغ للدراسة الدينية، هذا الشرخ يُفاقم الشعور بالظلم وعدم المساواة في تحمل المسؤولية، وهو عامل أساسي في تفكيك التماسك الاجتماعي، الذي حذر منه "إيهود باراك" كعنصر رئيسي في لعنة الـ 80 عاماً.
ج. تزايد الهجرة العكسية، البيانات الاقتصادية والديموغرافية تشير إلى قلق متزايد وفقدان الشعور بالأمن، والاستنزاف الاقتصادي الهائل للحرب، وارتفاع منسوب الخطر، كلها عوامل تشجع الأسر والشباب (الإسرائيليين) الذين يحملون جنسيات مزدوجة على "الحزم والرحيل" (الهجرة العكسية)، وهذا يعني تفريغ الكيان من الكفاءات الاقتصادية والعلمية، وهو مؤشر كلاسيكي لبداية الانهيار البطيء.
من المنظور العقائدي (وعد الآخرة)، نرى ان أحداث 7 أكتوبر تأكيد وتجسيد عملي للاقتراب من مرحلة "وعد الآخرة"، ما حدث هو الدليل على أن "العلو الكبير" الذي وصل إليه الكيان الصهيوني، والذي بدا قوياً لا يُقهر، هو في الحقيقة "علو هش" يمكن كسر شوكته بأدوات بسيطة.
كشفت احداث طوفان الاقصى ضعفاً عسكرياً واستخباراتياً هائلاً، وهو ما ينظر اليه أنه تمهيد لبعث "عباد أولي بأس شديد" الذين سيعملون على "تتبير ما علوا تتبيرا".
لم تكن أحداث 7 أكتوبر "طوفان الأقصى" هي (نهاية إسرائيل)، لكنها كانت النقطة التي أجمعت فيها كل المؤشرات (الأمنية، الداخلية، التاريخية، والعقائدية) على أن الساعة التاريخية للكيان قد تقدمت بشكل كبير، وأن الأزمة الوجودية انتقلت من مستوى النقاش النظري إلى مستوى التهديد الملموس الذي يهدد استمراره في صورته الحالية.
ففي علم السياسة الدولية، يُنظر إلى تشتيت انتباه القوى العظمى وتوزيعها على أزمات متعددة كعامل قد يخدم مصالح بعض الأطراف في مناطق الصراع، وقد يُضر بأطراف أخرى.
فأحداث 7 أكتوبر وما تبعها حدثت في خضم الصراعات العالمية(الحرب الروسية الأوكرانية/ الصراع الاقتصادي الأمريكي الصيني)، وهذا ما جعل تأثيرها على نظرية الزوال سلبياً جداً على الكيان، للأسباب التالية:
- كشف الأجندة الغربية المزدوجة، في وقت التنافس العالمي بين الصين وروسيا والدول النامية من جهة و"الغرب" متمثلاً بأمريكا وحلفائها الأوروبيين، أدت حرب على غزة إلى تسليط الضوء على ازدواجية المعايير الغربية، حيث أدى الموقف الغربي الداعم لإسرائيل في المحافل الدولية (مثل استخدام الفيتو في مجلس الأمن) إلى زيادة عزلة إسرائيل وحليفتها الأساسية (الولايات المتحدة)، وتفاقم دعاوى الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية.
- إثبات عدم جدوى التحالفات الأمنية، ان انشغال الولايات المتحدة بالصين وروسيا دفعها للانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط، والسعي لـ "تطبيع" إسرائيل مع الدول العربية لتكون حامية مصالح أمريكا في المنطقة (اتفاقيات إبراهام)، جاءت أحداث 7 أكتوبر لتبين فشل هذه الاتفاقيات وأن هذا الكيان يحتاج إلى الحماية، ولا يمكنه أن يكون "قوة حامية" لأي مصالح غربية أو إقليمية، هذا الفشل يضع ضغطاً هائلاً على العقيدة الاستراتيجية الأمريكية بالاعتماد على (إسرائيل)كقاعدة أمامية.
- تزايد العبء على الولايات المتحدة المنشغلة بدعم أوكرانيا والتوتر في المحيط الهادئ، فإن قدوم أزمة بحجم 7 أكتوبر أجبرها على إرسال حاملات طائرات وتخصيص حزمة مساعدات هائلة، ما يعتبر استنزاف للموارد المالية، كذلك دفع ثمن سياسي ودبلوماسي باهظ وهو أيضاً إضعاف لموقفها في الأمم المتحدة.
إن التغير في الرأي العام الغربي بعد أحداث 7 أكتوبر "طوفان الأقصى" وما تلاها من عمليات عسكرية يُعد بالفعل من أهم العوامل التي تؤثر على الشرعية الدولية للكيان، وينطبق هذا التغير تماماً على أحد التفسيرات الحديثة لقوله تعالى في سورة الإسراء:"ليسوؤوا وجوهكم" (الإساءة للوجه وفقدان الشرعية) أن تفسير "ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ" لا يقتصر فقط على الهزيمة العسكرية المادية بل يمتد ليشمل الإساءة المعنوية (فقدان السمعة), فقد نجح الكيان الصهيوني لعقود في تسويق نفسه كـ "ضحية أبدية" و"دولة ديمقراطية محاطة بأعداء"، وكـ "نور في الظلام" (light unto the nations) لكن بعد احداث 7 أكتوبر أدت الصور القادمة من غزة، لإظهار حجم العدوان وحرب الإبادة والدمار الهائل والاتهامات الرسمية (في محكمة العدل الدولية) بارتكاب إبادة جماعية، والتحول الجذري في الإعلام الغربي، إلى سقوط القناع الأخلاقي بالكامل,هذا التغيير جعل الكيان محل استنكار وشجب من قطاعات واسعة في الغرب، مما يُعد إساءة كبرى لوجهه المعنوي أمام العالم, ما أدى الى العزلة الدبلوماسية والشلل السياسي، لأول مرة، أصبحت الولايات المتحدة وحفنة من حلفائها الغربيين في عزلة تامة تقريباً ومحل انتقاد لدعمها المطلق للكيان في عدوانه على غزة، من خلالإجبار الدول الحليفة على استخدام الفيتو مراراً لمنع إدانة واضحة,هو دليل على أن الكيان لا يستطيع حماية نفسه دبلوماسياً دون الاعتماد المطلق على "الحماية الأمريكية".
بالتالي فإن الإساءة للوجه المعنوي هي خطوة أساسية نحو تجريد الكيان من أهم مصادر قوته غير العسكرية، وهو ما يسرع من مسار الزوال المرتبط بـ "اللعنة الداخلية" و"الوعد القرآني".
نعم، يمكن القول إن أحداث 7 أكتوبر وما تبعها من ردود فعل دولية، خاصة في الغرب، تشكل تجسيداً قوياً للمرحلة التي سبقت النهاية، حيث تحول الدعم الغربي من كونه مبنياً على الشرعية الأخلاقية إلى كونه مبنياً فقط على المصالح الاستراتيجية القسرية، وهذا مؤشر على أن الكيان يفقد أهم أدوات دفاعه الدبلوماسية.
"أن قوى الشر والطغيان لا مستقبل لها وأن الحق سيعود لأهله عاجلاً أم آجلاً"، تُعد من الثوابت والسنن الكونية التي تتجاوز حدود التحليل السياسي المعاصر، هذا الاعتقاد يستند إلى ركائز متينة، سواء نظرنا إليها من زاوية الإيمان أو التاريخ أو الفلسفة
- في جميع المعتقدات الدينية، يعتبر العدل من أخص صفات الخالق، والطغيان مرفوض. لذلك فالوعد الإلهي في الإسلام، يعتبر زوال الظلم أمراً محتوماً يندرج تحت وعد الله بنصرة الحق والمستضعفين، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (سورة الأنبياء).
يربط الإسلام هذا النصر بـ "سنن التغيير"، وهي تكمن في تغيير النفوس والمجتمعات أولاً كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.
- السنن التاريخية والحضارية، يؤكد علم الاجتماع والتاريخ أن الدول والكيانات التي تُبنى على الظلم والقهر لا يمكن أن تدوم للأبد، فالظلم يخلق فجوة هائلة بين الحاكم والمحكوم، ويُفسد التماسك الاجتماعي الضروري لبقاء أي دولة، مما يؤدي إلى انهيارها من الداخل، وهذا هو جوهر "لعنة العقد الثامن", الطغيان يحمل بذور فنائه في داخله.
- الفطرة الإنسانية السليمة تميل دائماً نحو العدل والحرية، فالقهر يخلق مقاومة مستمرة وممتدة عبر الأجيال. حتى لو فترت المقاومة لفترة، فإنها تعود دائماً للظهور لأنها تمثل حاجة فطرية لـ الحرية والكرامة، "فالحق لا يموت بمرور الزمن".
أن أحداث 7 أكتوبر "طوفان الأقصى" كانت بمثابة "المسرّع" لهذه الحتمية، حيث، سحبت الغطاء الأمني والعسكري (انهيار الردع)،سحبت الغطاء الأخلاقي والدبلوماسي (ليسوؤوا وجوهكم)، فجرتالقنبلة الموقوتة الداخلية (لعنة العقد الثامن).
إن التحدي الأكبر ليس في حتمية زوال الظلم، بل في "الثمن" و"التوقيت", المسار قد يكون طويلاً ومؤلماً، لكن كل المؤشرات (بما فيها اعترافات قادة الكيان نفسه) تؤكد أننا في مرحلة حاسمة من تسارع الأحداث نحو النهاية المحتومة لهذا الكيان المغتصب.
أ. حسين فريجة
حزب الله بين الكباش السياسي والتصعيد العسكري.. هل تندلع الحرب؟!
كازاخستان ترتدي قبعة "الإبراهيمية".. ولكم التداعيات
ما بين المحيط البيزانطي لليونان والوطن الأزرق لتركيا.. كيف تتحرك "إسرائيل" لرسم حدودها؟