لبنان بين نار العدو ووهم المفاوضات: دولة تُقصف… وسلطة تنتظر المعجزات

الثلاثاء 09 كانون الأول , 2025 11:24 توقيت بيروت أقلام الثبات

خاص الثبات

في لحظة سياسية هي الأكثر التباساً في تاريخ المواجهة مع العدو، يجد لبنان نفسه واقفاً على حافة معادلة خطيرة: مفاوضات تُدار ببطء ميكانيكي، وعدوان يُدار بسرعة صاروخية. وبينهما دولةٌ تحاول عبثاً إيجاد توازن بين لغة الدبلوماسية ولغة النار، فيما الزمن يعمل لصالح الطرف الأقوى على الأرض.

مأزق المفاوض اللبناني: بين وهم “الآلية” وحقيقة الميدان

لم يكن تصريح السفير الأميركي ميشال عيسى مجرّد جملة عابرة في يوم سياسي متقلّب؛ بل كان أشبه بصفعة علنية وجّهها إلى الطبقة السياسية اللبنانية كلّها، من دون استثناء. قال بوضوح لا يحتمل التأويل إنّ “إسرائيل لا تربط بين عمليّاتها والمفاوضات”… وكأنّه يهمس في أذن الدولة اللبنانية: توقّفوا عن الوهم.

منذ انطلاق لجنة "الميكانيزم"، روّج البعض في لبنان لفكرة أن هذه اللجنة تشكّل صمّام أمان، وأنها الطريق الأقصر نحو وقف إطلاق النار، وكأنّ مجرّد الجلوس على الطاولة يكفي لإسكات المدافع. لكن الوقائع أثبتت أن الآلية ليست سوى مساحة تفاوض شكلية، تُستخدم لتمرير الوقت وإظهار أن ثمة مساراً دبلوماسياً قائماً، فيما العدو يواصل اعتداءاته دون هوادة.

لقد التزم لبنان منذ 27 تشرين الثاني 2024 وقف إطلاق النار، ولم يقدّم للعدو ذريعة واحدة، لا خرقاً ولا استفزازاً. ورغم ذلك، استمر القصف والاعتداءات، واستمرت المجازر بحق المدنيين، وكأنّ الالتزام اللبناني عقوبة لا ميزة.

هذه المفارقة ليست جديدة في تاريخ العلاقة مع العدو، لكنها في هذه المرحلة أشدّ قسوة لأنها تجري تحت سقف مفاوضات يفترض أن تمنع ذلك. وهنا يتجلّى السؤال الأخطر:

هل المفاوض اللبناني يملك فعلاً أوراق قوة، أم يجلس على الطاولة بفراغ سياسي وإقليمي قاتل؟

لطالما سمع اللبنانيون نصائح دولية تدعوهم إلى “التهدئة لإعطاء الدبلوماسية فرصة”. التزم لبنان التهدئة… فجاءته النار.

قدّم حسن نية… فجاءته الاعتداءات.

وقف إطلاق النار من طرف واحد… فقابله العدو بدم إضافي.

هذا السلوك يفتح الباب أمام قراءة واقعية: وقف إطلاق النار ليس مرتبطاً بالتهدئة، بل بميزان القوى، ولا شيء غير ذلك.

وبالتالي فإن أي مفاوضات لا تستند إلى قدرة على الردع تصبح عملياً طاولة لاستدراج التنازلات، لا لتثبيت الحقوق.

الدولة اللبنانية: بين صمت ثقيل… وعجز أثقل

ما يثير القلق ليس فقط استمرار العدوان، بل طريقة تعامل الدولة معه:

بيانات خجولة لا ترتقي إلى مستوى الانتهاكات.

رهان معلّق على المجتمع الدولي الذي لم يثبت يوماً أنه قادر على كبح العدو.

خطاب رسمي يراوح بين التمنّي والاستجداء السياسي.

الدولة التي تُقصف حدودها وبلداتها يومياً لا يمكن أن تتصرّف بهذا القدر من الرتابة.

الدولة التي تستقبل وفود الوساطة لا يجب أن تقف أمامهم وكأنها تطلب “الستر”، بل يجب أن تواجههم بموقف صلب: إمّا ضمانات واضحة وصريحة، وإمّا اعتراف بأن المفاوضات ليست سوى عملية تجميل للعدوان.

المعادلة الإسرائيلية: القوّة أولاً… ثم القوّة… ثم القوّة

يعتمد العدو، منذ ما قبل بدء المفاوضات، استراتيجية ثابتة:

الضغط بالنار.

التهويل السياسي.

خلق وقائع ميدانية.

استخدام المفاوضات كغطاء لا كبديل.

هذه الآلية ليست عفوية، بل جزء من مدرسة سياسية قائمة على فكرة:

إرغام الخصم على التفاوض من موقع الخوف لا من موقع الندّية.

وبذلك، يتحوّل استمرار العدوان إلى وسيلة تفاوضية، لا إلى خرق لها.

السؤال المركزي: هل يملك لبنان استراتيجية تفاوض حقيقية؟

المرّ في هذه المرحلة ليس العدوان وحده، بل هشاشة الموقف اللبناني المُعلن. فالدولة لم تحدد حتى الآن:

ما هي خطوطها الحمر؟

ما هي أوراق قوتها؟

ما هو الحد الأدنى المقبول قبل توقيع أي اتفاق؟

وما هي خطة التعامل مع تصعيد العدو إذا دخل المفاوضات بوجه قتالي لا سياسي؟

في غياب هذه الأسئلة يصبح المفاوض اللبناني أسير اللحظة، لا صانعها.

صياغة رؤية جديدة… أو استمرار الدوران في الحلقة المفرغة

إذا أراد لبنان الخروج من هذا النفق، فهو يحتاج إلى:

توحيد الموقف السياسي الداخلي بدل الخطابات المتضاربة التي تُضعف موقفه.

تثبيت استراتيجية دفاعية ودبلوماسية واضحة، لا قائمة على ردّ الفعل فقط.

الاعتراف بأن أي تفاوض بلا عناصر قوة هو تنازل مُسبق.

التحرّك دولياً بموقف صلب يتجاوز لغة الشرح والشكوى.

لبنان اليوم أمام امتحان وجودي:

إما أن يتعامل مع المفاوضات كجزء من معركة شاملة تتداخل فيها القوة والدبلوماسية، أو أن يستمر في مراهنة خاسرة على حسن النوايا الدولية التي لم تحمِه يوماً من رصاصة، فكيف ستحميه من مشروع فرض إملاءات؟

إنّ لحظة الحقيقة قد وصلت.

وإمّا أن يمتلك لبنان جرأة الاعتراف بحقيقة ميزان القوى،

وإمّا سيبقى أسير وهمٍ قاتل اسمه: “المفاوضات ستُنقذنا”.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل