أقلام الثبات
جاءت زيارة بابا روما للبنان لتؤكد للبنانيين أن دولتهم، بأركانها وكل مؤسساتها، دولة قائمة على الغش والكذب والخداع، فصدمتهم بمشاهد المراسم والشكليات والاحتفالات التي أقامتها، خلال الزيارة، جعلتهم يتهكمون على ما شاهدوه وشاهده الحبر الأعظم الكاثوليكي، لأنه كان مظاهر خدّاعة، تخفي الحقيقة التي يعيشها اللبنانيون؛ في القهر الذي يلفهم؛ وفي الفقر الذي يسحقهم؛ وفي خيبة الأمل والكآبة التي تدفع الكثيرين منهم قسراً للهجرة في بلاد الله الواسعة، بحثاً عن لقمة عيش كريمة وحياة غير محتقرة.
زوّر المسؤولون المعنيون كل شيء، ليقدموا للزائر صورة زاهية عن بلد سرقت أموال شعبه المودعة في المصارف وهرّبت إلى الخارج، ليظن أن اللبنانيين يعيشون بألف خير، نتيجة البهرجة والتكلف اللذين رافقا الزيارة وجولات الزائر.
بل زوروا شكل البلد، فإذا الطرقات المحفرة منذ سنوات، التي يشكوا اللبنانيون من حفرها ومطباتها، التي تعطل سياراتهم وتستهلك مداخيلهم في إصلاحها، تلك الطرقات التي تقرر أن يمر عليها موكب البابا، باتت في أحسن احوالها، من تزفيت وتخطيط وإضاءة افتقدتها لفترات طويلة، مثلما تفتقد بيوت السكان الكهرباء، التي تشهد الواح الطاقة المنتشرة على أسطح البيوت؛ والمولدات الموزعة في كل الشوارع والأحياء، أن كهرباء الدولة غائبة، فإذا بها خلال زيارة البابا، وبقدرة قادر، تحضر بساعات توزيع مضاعفة، ليلا ونهاراً.
أصرّ كبار أهل الحكم ورؤوس السلطة على تذكير اللبنانيين أن وطنهم قام من يومه الأول على الغش والخداع؛ بلد أقيم على أسس الطائفية والمحاصصة والتبعية للخارج، فيما يلقن أطفال المدارس فيه نشيد كلنا للوطن؛ ويتفنن زعماؤه بالحديث عن سيادة مزعومة وعن قوة ومنعة تشبه صلابة شجرة الأرز. وسرعان ما تتبخر تلك السيادة والمنعة أمام إملاءات الخارج؛ وأمام عدوان يكرره الغزاة الصهاينة، منذ العام 1947، من دون أن يلقى رداً مناسباً، اللهم إلا من أفراد مقاومين، ينتقم العدو منهم بقتلهم مع نسائهم وأطفالهم، مثلما جرى ويجري منذ مجزرة حولا الأولى، إلى مجزرة قانا، ثم إلى مجازر 1978 و1982 و2006 و2024، المستمرة حتى الساعة.
ماذا تتوقع من حكام وطن لم يجد مؤسسوه غير شجرة عزيزة يتخذونها شعاراً له، في حين انها منتشرة في أكثر من بقعة وبلد في العالم. وحتى هذا الوطن، الذي أنشئ بقرار من المستعمر الفرنسي، خاب أمل أهله بان يكون وطناً لهم، فهاجر معظمهم بحثاً عن وطن يحضنهم، فإذا بهم ألعوبة يتلهى بها زعماء الطوائف واركانها، بعضهم يسميهم مغتربون؛ وآخرون يسمونهم منتشرون؛ ويفتعل خلاف حول التسمية، مثل معظم الخلافات "الوطنية"، لإلهاء الشعب عن مثالب هذا النظام الحاكم وأركانه وزعماء طوائفه، الذين يتقدم الولاء لهم على الولاء المفترض أن يكون للوطن.
بل ماذا تتوقع من وطن جعل حكامه بعض شعبه، يخاطب الرئيس الفرنسي بدعوته ليعيد استعماره، فالمستعمر عند البعض أفضل له من تعامل الحكام "الوطنيين".
وطن أسماه المستعمر الفرنسي "لبنان الكبير"، فظن رعاياه أنه سيكون وطناً ودولة لهم، لكنهم اكتشفوا انه كيان وظيفي، أقيم لصالح زعماء الطوائف وأصحاب المصارف؛ وتجار المخدرات ورعاة القتلة والمجرمين؛ وازلام القناصل والسفارات؛ وبائعي المواقف والمبادئ وتجار الدم. أليست هذه صفات وطن المحاصصات الطائفية، الذي تستقوي كل جهة فيه بمن يدعمها من القوى الإقليمية والدولية، حتى لو كان الشيطان ممثلا بالعدو "الإسرائيلي"؟ كما تجعل تلك المحاصصة من الطوائف حصوناً للفاسدين، تحميهم ويحمونها، وإطلاق سراح رياض سلامة خير دليل.
وهل هناك من ينكر أن كل طائفة لبنانية تحسب نفسها على إحدى القوى الدولية؟ والشعب بين دهماء تحركه العصبيات والمصالح والزبائنية؛ وبين محتج يوصل رسالته بإحجامه، مع أكثر من نصف اللبنانيين، عن المشاركة في العمليات الانتخابية.
وهل هناك غش وتزوير أكثر من الخضوع للإملاءات الخارجية، بالاستسلام أمام الاعتداءات "الإسرائيلية" ورفض مقاومتها، من خلال جعل الجيش أعزلا من السلاح المناسب؛ ورفض وجود المقاومة وسلاحها؟ مما يؤكد استمرار بعض اللبنانيين في نهجهم التاريخي، الذي تمثل ببيع آبائهم وأجدادهم لأراضيهم وأملاكهم في فلسطين لليهود. من دون أن يتخلوا عن الردح بخطابات السيادة والاستقلال المزعومين.
وهل هناك غش أكثر من وصفنا بأننا أشقاء وأبناء النبي إبراهيم، مع شذاذ الآفاق، الذين تجمعوا في فلسطين من ألوان وشعوب مختلفة؛ وهم يعتدون على بلادنا ويقتلوننا، منذ أن وطئت أرجلهم أرض فلسطين، بدعم وحماية المستعمر البريطاني والفرنسي والمتسلط ألأميركي.
كما ليس هناك غش أكثر من فرض الأميركيين رؤساء على لبنان، بشكل علني، يعترف بحصوله نواب خضعوا للأمر الأميركي والمال السعودي، في تقرير وجهة تصويتهم في البرلمان. مما يجعلهم نواباً لجمهورية موز وليس لبلد مستقل ذو سيادة.
وهل هناك تزوير غير أكثر من تواطؤ البعض، مع فكرة قديمة، تقضي بإعطاء الجنوب حتى صيدا للعدو "الإسرائيلي" لأسباب طائفية. أو سكوت البعض ذاته، عن دعوة الصهيوني توم براك لإعطاء طرابلس والشمال لسورية، أيضا لأسباب طائفية، تحدث عنها مندوبو الوكالة اليهودية في مذكراتهم.
كل ذلك يبين ان التلوث السياسي في لبنان يفوق التلوث البيئي، الذي جعل أمراض السرطان تتفشى بين السكان. وتزوير جريمة تفجير مرفأ بيروت بصاروخ لا يملكه غير الأميركي؛ وإبعاد تهمة التفجير عن الأميركي و"الإسرائيلي"، خير دليل. كما أن تزوير "ثورة" عام 2019، كان فضيحة جرى فيها التغطية على ضرب العملة الوطنية؛ وعلى سرقة أموال اللبنانيين المودعة في المصارف؛ وتهريبها إلى الخارج.
ومن المعروف بالنسبة للقاصي والداني، أن زمام ومقاليد الحكم في لبنان هي في أيدي السفارة الأميركية، التي تتصرف كمندوب سامي، تأمر في ما تراه مصلحة لبلادها، التي الغت علنياً كل المسافات بينها وبين المصلحة "الإسرائيلية"؛ وباتت أميركا هي "إسرائيل" و"إسرائيل" هي أميركا.
وآخر أوامرها كانت فرض سيمون كرم، ممثلا للبنان في لجنة "الميكانيزم"، التي يقودها الأميركي، لتكون مدخلاً للتفاوض المباشر مع العدو المحتل، فيتم التطبيع والاعتراف بالمحتلين من دون أخذ رأي اللبنانيين.
تعيين سيمون كرم لا يعني أن لبنان سيكون "كرم عَ درب" في التنازلات _ أمين أبوراشد
"السلام" وَهْم... وتنازلات لبنان الرسمي بلا ثمن ــ د. نسيب حطيط
مفاوضات الإرادة والإدارة اللبنانيتين.. والأهداف "الإسرائيلية" ــ يونس عودة