الذوق عند الصوفية… معرفةٌ تُنال بالقلب حين يصفو

الثلاثاء 25 تشرين الثاني , 2025 12:51 توقيت بيروت إسـلاميــّـــات

 الثبات-إسلاميات

   ليس الذوق عند الصوفية كلمة تُقال، ولا مصطلحًا يُحفظ، بل هو جوهرةٌ خفيّة لا تُدرك إلا عندما يفتح الله للقلب بابًا من النور، فيستشعر الحقائق كما يستشعر اللسان طعم الماء البارد.  

إنهم يرون أن العلم درجات، أوّلها السماع، وثانيها الفهم، وأعلاها الذوق… ذلك المقام الذي عبّر عنه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فالتزيين هنا ليس زخرفًا ذهنيًا، بل حالة يباشر فيها القلب لذة الإيمان وانشراحه.

 وحين أراد النبي ﷺ أن يصف حقيقة الإيمان لم يتحدث عن نظر أو مناظرة، بل استخدم كلمة الذوق، فقال: ((ذاق طعمَ الإيمانِ من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولًا))  

وجاء في حديث آخر يرسّخ المعنى ذاته: ((ثلاثٌ من كنّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان…))

فالإيمان عند الصوفية ليس مجرد أفكار تُرتَّب، بل هو حلاوة تُذاق، وطمأنينة تُعاش، وسكينة تُسكب في القلب عند كل ذكر.

 والذوق في مفهومهم ليس انفلاتًا شعوريًا، ولا حالة وجدٍ بلا ضابط، وإنما هو نور يقذفه الله في القلب جزاءً لمجاهدة صادقة. يشير إلى هذا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾   فالهدى هاهنا هدايةٌ ذوقية توفيقية من الله تعالى قبل أن تكون فكرية مجردة، إذ لو كان العلم وحده يكفي لاهتدى به كل من حفظوه.

 وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ والفرقان عندهم نور ينفذ إلى الحقائق، يُميّز به العبد بين ما يرضي الله وما يغضبه، وذلك عين الذوق والبصيرة.

 ولأن الذوق مقامٌ يُتلقّى بالمجاهدة، ربطه النبي ﷺ بقرب العبد من ربّه، فقال في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به…))  والمعنى أن الله يفتح لعبده أبواب الإدراك العميق، فيسمع ما لا يسمعه غيره، ويميز من أنوار الهداية ما يعجز عنه أهل الغفلة، وهذا غاية الذوق.

 ومدار الذوق كلّه على ذكر الله، لأن الذكر هو مفتاح صفاء القلب، قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾  فإذا اطمأن القلب استعدّ لتلقي الأنوار، وإذا تلقّى الأنوار أشرق الذوق في داخله.

 ولهذا قال بعض العارفين: “الذوق ثمرة ذكر خالص، ومجاهدة صادقة، وصحبة صالحة.”  فالقلوب إذا اجتمعت على الذكر تناسلت الأنوار بينها، ومن لم يذق لم يعرف.

 وللذوق ثمرات لا تخطئها البصيرة:

فهو يمنح العبد حلاوةً في الطاعة تجعل الصلاة راحة، والقرآن أنسًا، والخلوة روضة.

 وهو يفتح باب السكينة التي وصفها الله بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾  فلا يتقلب قلبه بتقلب الدنيا. وهو يورث إجلالًا لله، وتعظيمًا لأمره، وانكسارًا بين يديه، إذ الذوق عند الصوفي ليس دعوى كاذبة ولا ادعاء كرامات، بل استقامة وحياء وخشية.

 ولهذا قال الإمام الجنيد: “طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في طريقنا.” 

فذوق الصوفية ليس فوق الشريعة ولا خارجها، بل هو روحٌ تُنفخ في نصوصها فتنقله من الحفظ إلى الحياة.

 وخلاصة الأمر: الذوق عند الصوفية هو أن تتعامل مع الدين تعامل الظمآن مع الماء، لا تعامل الحافظ مع الدرس.

 هو أن تنتقل من سماع المعنى إلى معايشته، ومن علم اللسان إلى علم الجَنان.

 فإذا فتح الله لك باب الذوق، أصبحت كل طاعة لذة، وكل قرب نورًا، وكل ذكر حياةً… وَمَا ذَلِكَ إِلَّا فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل