الثبات-إسلاميات
لم يعد الخراب يطرق أبواب البيوت من الخارج، بل صار يتسلّل إليها بصمتٍ عبر شاشةٍ صغيرة، تُزيَّن فيها الحياة، وتُجمَّل الأقدار، وتُعرض النِّعَم بلا أثمان، حتى يخال الناظر أن السعادة تُشترى بثوبٍ فاخر، أو تُختصر بسيارةٍ فارهة، أو تُنال بصورةٍ في مطارٍ أو فندق.
إن ما يُعرض اليوم عبر برامج التواصل الاجتماعي من مظاهر البذخ: لباس، وذهب، وسفرات، ومطاعم، ورفاهية مصقولة بالتصوير والمونتاج… ليس بريئًا كما يُظَنّ، بل أصبح سببًا خفيًا في تخريب البيوت، وإشعال نار المقارنات، وإفساد القناعة في القلوب.
فالولد الصغير، الذي لم تتشكّل رؤيته للحياة بعد، يرى أقرانه على الشاشات يمتلكون ما لا يملك، ويلعبون بألعاب لا يستطيع والده شراءها، فيبدأ السؤال المؤلم: لماذا أبي ليس مثلهم؟
ثم يتحوّل السؤال إلى شعور، ثم إلى خيبة، ثم إلى تمرّدٍ صامت أو سخطٍ معلَن.
والزوجة، التي كانت ترى في زوجها سندًا وكفاية، تبدأ – من حيث لا تشعر – بعقد المقارنات: هذا يسافر بزوجته، وذاك يُغدق عليها الهدايا، وآخر يلبسها الذهب… فتغيب الحقيقة، وتبقى الصورة، ويصبح الزوج – وهو يبذل وسعه – مقصِّرًا في ميزان الشاشات لا في ميزان الله وهنا تقع الفتنة
قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طه: 131]
إنها فتنة… سماها القرآن فتنة، لأن النظر المتكرر إلى متاع الآخرين يُفسد الرضا، ويُميت الشكر، ويزرع في القلب شعور النقص، ولو كان الإنسان في نعمة.
وقال النبي ﷺ: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)) هذا بالنسبة للأمور الدنيوية أما الأمور المتعلقة بالآخر فجاء الأمر بها للإسراع والتنافس والمسابقة
لكن الشاشات اليوم تفعل العكس تمامًا؛ تُجبرك على النظر إلى الأعلى دائمًا، إلى المنتقى والمفلتر والمبالغ فيه، حتى تظن أن حياتك ناقصة، وبيتك أقل، وزوجك أقل، وأبوك عاجز… والواقع غير ذلك.
والمصيبة الكبرى أن ما يُعرض ليس حقيقة الحياة، بل لقطات مختارة من أناسٍ قد يكونون غارقين في الديون، أو الخلافات، أو القلق، لكنهم يُحسنون إخفاء الألم خلف ابتسامة وعدسة.
قال الحسن البصري رحمه الله: «من نظر في دنيا غيره طال حزنه، ومن نظر في دنياه قصر أمله».
إن البيوت لا تُخرب بالفقر، بل تُخرب حين يغيب الرضا، وحين تُقاس الحياة بمقاييس غير عادلة، وحين يُنسى أن الله قسّم الأرزاق بحكمة، لا عبث فيها. ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: 32]
فالواجب اليوم على الآباء أن يُربّوا أبناءهم على حقيقة الدنيا، لا على بريقها، وأن يشرحوا لهم أن ما يُرى على الشاشات ليس معيارًا للنجاح ولا للسعادة.
وعلى الأزواج والزوجات أن يتذكّروا أن البيوت تُبنى بالمودّة والرحمة، لا بالسفرات والهدايا.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ولم يقل: ذهبًا ولا سيارات.
إن أعظم ما يحفظ البيوت في زمن الشاشات هو غضّ القلب قبل غضّ البصر، والعودة إلى ميزان القناعة، واستحضار نعم الله الخفية التي لا تُصوَّر ولا تُنشر، لكنها تُنعش الروح وتُثبّت البيوت.
فليس كل ما يلمع نعمة، وليس كل ما يُعرض سعادة، والبيت الذي فيه رضا، وإن قلّ أغنى عند الله من ألف صورةٍ لترفٍ زائل.
في رحاب سورة الكهف كما يبعث الله القلوب، يبعث الأقدار
رجب الأصب شهر الله .. سماحة الشيخ الدكتور عبد الناصر جبري رضوان الله عليه
رجب… شهر اليقظة والتهيئة