الثبات-إسلاميات
قال الله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}
هذه الآية الكريمة تفتتح مشهدًا من أعجب مشاهد الإيمان والثبات، لمجموعةٍ من الشباب آمنوا بربهم في زمنٍ طغى فيه الكفر والضلال، فآثروا مغارةً ضيّقة على دنيا فسيحة، لأنهم وجدوا في ظلال الإيمان سعةً لا تُقاس بالأمكنة، بل بما في القلوب من يقينٍ وتوكلٍ على الله.
إنّ قول الله تعالى {إذ أوى الفتية إلى الكهف} ليس مجرد انتقالٍ مكانيّ، بل هو هجرةٌ روحية من الضيق إلى السَّعة، ومن الخلق إلى الخالق، ومن سلطان الطغاة إلى سلطان الإله الواحد القهار.
قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن أولئك الفتية ، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه ، فهربوا منه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم : { ربنا آتنا من لدنك رحمة } أي : هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا....
لما فارقوا قومهم لأجل الله، ولجؤوا إلى الكهف، آواهم الله برحمته، وحاطهم بعنايته، وأنامهم في حفظه فهذه سنة الله في عباده المؤمنين؛ من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه، كما قال ﷺ: ((إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل إلا بدّلك الله به ما هو خير لك منه)) لقد صدق الله وعده، فاستجاب لهم، فقال تعالى بعد دعائهم: {فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} أي: أنامهم الله نومًا عجيبًا، وجعل سمعهم محجوبًا عن الدنيا، لتبقى أرواحهم في طمأنينة الرحمة التي سألوها {ربَّنا آتِنا من لدنك رحمة} إنها استعطافٌ وتضرعٌ إلى الله أن يمنحهم رحمةً خاصة، لا تُنال بالأسباب الظاهرة وحدها، بل بـ{من لَدُنك} أي من خزائن رحمتك التي لا تُحدّ وفي هذا تذكيرٌ لكلّ من يمرّ ببلاءٍ أو ضيقٍ أن الرحمة لا تُطلب إلا من الله، كما قال سبحانه: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}
{وهيّئ لنا من أمرنا رشَدًا} أي يسّر لنا طريقًا سليماً نهتدي به وسط الظلمات فقد جمعوا في دعائهم بين الرحمة التي تُرقّق القلب، والرشد الذي يُنير العقل، ولهذا كان جزاؤهم أن تولّى الله أمرهم بنفسه.
وليس غريبًا أن تكون سورة الكهف تفتتح بهذا المثل الخالد في الثبات، لأن النبي ﷺ أرشد إلى قراءتها كل جمعة لتجديد الإيمان، فقال ﷺ: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) فهؤلاء الفتية هم رمز الثبات في زمن الفتنة، وهو ما أكّده النبي ﷺ حين قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا...)) فكان لجوؤهم إلى الكهف فرارًا بدينهم، كما قال ﷺ: ((يُوشك أن يكون خيرُ مال الرجل غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن))
وهنا يظهر عمق الإشارة القرآنية: أنّ "الكهف" ليس مكانًا من حجرٍ فحسب، بل هو رمزٌ لكل ملجأٍ إلى الله في زمن الغربة، كما قال تعالى في آية أخرى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فكلُّ من فرَّ إلى الله نجا، وكل من أوى إليه آواه، وكل من دعا برحمةٍ ورُشدٍ كما دعا الفتية، كان الله لهم ناصرًا وهاديًا.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ} ثم انظر كيف ختم الله قصتهم ببيان العبرة :{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} فالثبات والهدى لا يُنالان بالكثرة ولا بالقوة، بل بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه نورًا على نور.
يا قارئ سورة الكهف في يوم الجمعة تذكّر وأنت تمرّ بهذه الآية أن "كهفك" اليوم قد يكون ركعةً صادقة، أو صحبةً صالحة، أو اعتزالًا لفتنةٍ تهلك القلوب.
وأنّ الدعاء: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا} هو زادك في كل مأزقٍ وظلمةٍ وابتلاء. فمن أوى إلى الله، آواه الله في رحمته ومن استهدى الله، هيّأ له من أمره رشدًا ومن فرَّ بدينه، جعله الله آيةً تُتلى إلى يوم القيامة.
الحياة الطيّبة.. ثمرة القرب من الله
نفحات الجمعة: لا تقنطوا من رحمة الله
في رحاب سورة الكهف