في رحاب سورة الكهف

الجمعة 31 تشرين الأول , 2025 12:43 توقيت بيروت إسـلاميــّـــات

لثبات-إسلاميات 

قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾

 تفتتح هذه الآية الكريمة مشهدًا من أعجب مشاهد الإيمان، وتضع القارئ أمام سؤالٍ بليغٍ في صياغته، عميقٍ في معناه: "أم حسبت"، أي: أظننت أن قصة أصحاب الكهف هي أعجب آيات الله؟

إن في هذا السؤال نفياً للتعجب المفرط، وتذكيرًا بأن آيات الله في الكون والحياة والأنفس أعظم وأوسع من أن تُحصر في قصةٍ واحدة، وإن كانت قصة الفتية من دلائل قدرته الباهرة.

  قال المفسرون: إن الله سبحانه خاطب نبيه ﷺ بهذا الاستفهام ليعلمه أن ما سيقصّه عليه من خبر الفتية ليس أغرب من آيات الله الأخرى التي يراها كل يوم، من خلق السماوات والأرض، وإحياء القلوب بعد موتها، وإنزال الغيث بعد القَحط، وتصريف الرياح، وتقليب الليل والنهار قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]

 فالقرآن هنا يُربّي النفس على الاتساع في النظر، وأن لا تحصر إيمانها في ما هو خارق أو نادر، بل ترى آيات الله في كل لحظةٍ من الحياة.

  ومع ذلك، فقصّة أصحاب الكهف تبقى عجيبة في بابها، لأنها تُجسِّد قدرة الله على إحياء من أماتهم، وحفظ من لجأ إليه، قال تعالى بعد ذلك: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف: 11] ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: 12]

  إنه مشهد يُظهر أن الذي يحيي النائم بعد ثلاثمئة عام، قادر على أن يبعث الموتى يوم القيامة وهنا يلتقي معنى القصة بالغاية الكبرى للسورة، وهي ترسيخ الإيمان بالبعث بعد الموت، وردّ شبهات المنكرين له قال تعالى في موضع آخر: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: 27]. 

وليس المقصود من القصة التسلية أو الغرابة، بل العبرة والإيقاظ، إذ تُذكِّر المؤمن أن الله بيده مقاليد الأمور كلها، يقلب الزمن كيف يشاء، ويحفظ عباده في ظلمات الكهف كما يحفظهم في صخب الدنيا وفي هذا المعنى قال رسول الله ﷺ: ((إن الله إذا أحب عبدًا حفظه، وجعل له من كل همٍّ فرجًا ومن كل ضيقٍ مخرجًا)) (رواه أحمد)

فمن لجأ إلى الله كما لجأ أصحاب الكهف، حفظه الله كما حفظهم، وإن لم يكن في كهفٍ من صخر، فكهف الإيمان أوسع، وظلّ الرحمة أرفق.

  ثم تأمل ختم الآية بذكر الرقيم، وهو اللوح أو الصخرة التي كُتب عليها أسماؤهم، ليبقى أثرهم شاهدًا على أن الله يرفع الذكر لمن صدق، ويُخلِّد قصص المخلصين، وإن ناموا في غياهب الكهف قرونًا.

  فيا من تقرأ هذه الآية، لا تتوقف عند العجب، بل تجاوزه إلى الإيمان بقدرة الله التي لا تحدّها عقول ولا زمان 

﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾  سؤالٌ يُعيد ترتيب نظرتك إلى الوجود، ليقول لك: كل ما في الكون من حولك آية، وكل نفسٍ في صدرك دليل، فآمن بربك كما آمن الفتية، يزدك هدىً ويجعل لك كهفًا من رحمته في زمن الفتنة.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل