الثبات-ثقافة
حين نتحدث عن البلاغة في حضارتنا، فنحن نتحدث عن أثر القرآن العظيم في صناعة اللسان والفكر والذوق إنه الكتاب الذي صاغ للأمة بيانها، وأقام للأدب عماده، وجعل من العربية لغةً للروح لا للسان فحسب
منه انبثقت علوم البيان والبديع والمعاني، ومن نوره تفرّعت مدارس الأدب والنقد، فصار القرآن بحقّ نبع البلاغة الخالد ومصدر الإبداع الأول في الثقافة العربية والإسلامية
منذ أن تنزّل القرآن الكريم على قلب سيدنا النبي ﷺ، تغيّر وجه اللغة العربية، وارتقت البلاغة إلى آفاقٍ لم تبلغها من قبل، حتى صار القرآن هو المِعيار الأعلى للفصاحة والبيان، يُقاس إليه الكلام ولا يُقاس هو إلى شيء
لقد نزل القرآن في قومٍ كانت الفصاحة سِمة لسانهم، والشعر تاجَ مجالسهم، والخطابة أداةَ تأثيرهم
ومع ذلك، لما سمعوا القرآن، دهشوا لنسجه العجيب، ونَظمه البديع الذي لا يُشبه الشعر ولا النثر، بل جاء في صورةٍ جديدةٍ تُحاكي الروح والعقل معًا قال الوليد بن المغيرة، وهو من فطاحل العرب في البيان: "والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه."
هذا الإعجاز البياني فتح بابًا جديدًا في دراسة اللغة، فاستيقظت العقول لتفهم سرّ تفرده، ومن هنا نشأت علوم البلاغة
علم المعاني: ليدرس مطابقة الكلام لمقتضى الحال كما في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ [هود: 44]
جملة تجمع القوة في اللفظ والعظمة في الصورة والانسجام بين الأرض والسماء
وعلم البيان: ليستكشف طرق التعبير عن المعنى الواحد بصورٍ مختلفة، كما في قوله تعالى: ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾
حيث جمع بين الإيجاز والدلالة في أوج البلاغة وعلم البديع: ليتتبع جمال الأساليب من طباقٍ وجناسٍ وسجعٍ وتناغمٍ لفظي ومعنوي
وهكذا صار القرآن مصدر الإلهام لكل دارسٍ وناقدٍ وشاعر، بل نبع البلاغة الذي انطلقت منه المدارس النحوية والبيانية في الكوفة والبصرة، ثم جاء عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز"، فقرّر أن سرّ إعجاز القرآن في نظمه، لا في مفرداته وحدها
كما ألهم القرآن الأدباء والمفسرين؛ فكان الزمخشري في “الكشاف” يغوص في أسرار البيان القرآني، وكان الرازي والبيضاوي وغيرهم يربطون المعنى بالبلاغة ربطًا محكمًا حتى الشعراء تأثروا بأسلوبه، فانعكس نوره على أساليبهم، وتغيّرت أذواقهم، واتجهت أقلامهم نحو السموّ والعمق بعد أن ذاقوا حلاوة التعبير القرآني
إنّ البلاغة بعد نزول القرآن لم تعد مجرّد صنعة لغوية، بل أصبحت فنًّا روحانيًا يُقاس بقدر ما يُحرك النفس ويهزّ الوجدان
فالقرآن لم يُعلّم الناس فصاحة اللسان فحسب، بل بلاغة القلب والفكر {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]
آية تشهد أن البيان القرآني فوق كل بيان، وأنه الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يَخبو نوره مهما امتد الزمان
ما زال القرآن الكريم، بعد أربعة عشر قرنًا، ينساب في أرواحنا كما ينساب النور في الصبح، يوقظ فينا ذائقة الجمال ويهذب لغتنا ووجداننا فكلما غاصت الأجيال في أسراره، ازدادت يقينًا أن البلاغة ليست في زخرف اللفظ، بل في صدق المعنى وسمو المقصد
إنه كتابٌ جمع بين إعجاز البيان وإعجاز الهداية، فارتقت به اللغةُ إلى مقام الرسالة، وصارت الكلمةُ به عبادةً ونورًا وهدايةً للعقول والقلوب
الخط العربي.. ثقافة تنطق بجمال الحرف
فلسفة الجمال ومعناه في الحضارات المختلفة
التعليم بين الماضي والحاضر