الثبات- ثقافة
الحرف العربي ليس مجرّد أداة كتابة، بل هو كائن حيّ، تنبض فيه ذاكرة الأمة وتنعكس عليه روحها. فمنذ أن انسكبت أنوار القرآن الكريم على القلوب، ارتقى الحرف منزلةً عليا، وصار وعاءً للوحي، وزينةً للكتاب، وبابًا للفن والجمال. لقد ارتبط الخط العربي بالثقافة الإسلامية ارتباط الروح بالجسد؛ إذ لم يكتفِ أن يكون وسيلة للتدوين، بل غدا رمزًا حضاريًا يجمع بين الفكر والفن. فالمساجد التي زخرفت جدرانها بالخطوط الكوفية والثلثية، ليست مجرد مبانٍ للصلاة، بل صفحات مفتوحة من الجمال والفكر. بل هو روح متجسدة في الحرف، وفنٌّ صاغته قرون من الإبداع، حتى صار رمزًا للهوية وجسرًا بين الدين والفن، والعقل والوجدان. جذور تاريخية نشأ الخط العربي في بيئة الجزيرة العربية، وتطوّر مع نزول القرآن الكريم، فكان الحافز الأسمى للعناية بالكتابة وإتقانها. ومنذ ذلك الحين، أصبح القلم خادمًا للقرآن، والكتابة ثوبًا لمعاني الوحي. أنواع وأشكال الخط الكوفي: أول الخطوط، بزواياه الحادة وجلاله المعماري، زُيّنت به جدران المساجد والمصاحف. النسخ: خط القراءة والكتابة، سلس وبسيط، به نسخت أمهات الكتب. الثلث: خط المهابة والجمال، به تُكتب العناوين وتُزيَّن القباب. الديواني والرقعة: خطا الدولة والمكاتبات اليومية. الفارسي والطغراء: حيث يلتقي الحرف بالزخرفة ليشكّل لوحة فنية. البعد الروحي والجمالي في الحرف العربي سرٌّ لا تجده في غيره، فهو يلتفّ ويلين، يمتدّ ويتقوّس، كأنه كائن حيّ يتحرك في فضاء الورق. ولذا رآه المتصوفة مرآةً للروح، وقالوا: الحرف العربي يصلي على الورق كما يصلي اللسان في المحراب. الحرف والهوية لم يكن الخط العربي أداة للكتابة وحسب، بل صار عنصرًا مكوِّنًا للهوية العربية والإسلامية، ورمزًا لوحدة الأمة، إذ كتب به العربي والفارسي والتركي والهندي، فجمعهم جمال الحرف وإن اختلفت الألسن. في العصر الحديث واليوم، ومع دخولنا عالم الرقمنة، ما زال الحرف العربي يقاوم الاندثار، بل وجد لنفسه فضاءً جديدًا في التصميم والهوية البصرية. فالشعارات الحديثة، واللوحات التشكيلية، ومواقع التواصل، كلها تفتح للحرف أبوابًا جديدة ليظل شاهدًا على أن الثقافة الحية لا تموت، بل تتجدّد كما يتجدد نهر الحياة.