غزة تحييك يا أبا البراء

الأربعاء 15 تشرين الأول , 2025 12:00 توقيت بيروت أقلام الثبات

خاص الثبات

في لحظة تفيض بالرمزية والكرامة، وتحت غبار معركة الإرادات بين سجون المحتل وميادين الصمود، عاد محمود عيسى، "أبو البراء"، إلى المشهد الفلسطيني بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ قضاها خلف الأسوار، سجينًا لا يُكسر، ورمزًا لا يُنسى.

هذا الرجل، الذي لم يكن مجرد أسير، بل مدرسة كاملة في الثبات، هو أحد أعمدة كتائب الشهيد عز الدين القسام في القدس، ومهندس الخلية التي شكّلت النواة الأولى للعمل المسلح في قلب المدينة المقدسة. خرج اليوم شامخًا كما دخل، منتصب القامة، صلب الإرادة، حاملاً في وجهه تقاسيم الشوق، وفي عينيه وهج الثورة.

من عناتا إلى قلب المعركة

وُلد محمود عيسى في بلدة عناتا، تلك القرية الواقعة على تخوم القدس، في الحادي والعشرين من مايو عام 1968. ترعرع على قصص المقاومة، وتشبع بروح الانتفاضة، فاختار باكرًا أن يكون على خط النار، لا على هامش التاريخ.

درس الفقه وأصول الدين في جامعة أبو ديس، لكن بوصلته الروحية والعقائدية قادته إلى ميادين أخرى، حيث لا تُكتب الحروف بالحبر، بل بالدم، وحيث تُترجم العقيدة إلى فعل مقاوم في زمن التواطؤ والخنوع.

الخلية 101.. تأسيس مدرسة في الأسر والمواجهة

في بدايات التسعينيات، أسّس "أبو البراء" ما عُرف بالوحدة الخاصة 101، خلية عسكرية نوعية ضمن كتائب القسام، كان هدفها أسر جنود الاحتلال لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين، وفي قلب عقيدتها يقينٌ بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.

وفي ديسمبر 1992، قاد عملية أسر الجندي الإسرائيلي "نسيم توليدانو"، رافعًا مطلبًا واضحًا: الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين. لم تستجب إسرائيل، فقُتل الجندي، وبدأت رحلة المطاردة التي انتهت باعتقاله في يونيو 1993.

ثلاث مؤبدات.. وجدار لا يُخترق

لم يكن اعتقال محمود عيسى مجرد "توقيف"، بل كان قرارًا استراتيجيًا لدى الاحتلال بكسر نموذج القائد الميداني المقاوم في القدس. حكموا عليه بثلاثة مؤبدات وسنوات إضافية، ليصبح واحدًا من أصحاب أطول الأحكام في سجون الاحتلال. لكنهم أخطأوا في الحساب.

لم تُكسره الزنازين، بل صقلته. لم تذبُ حنجرته في الصمت، بل كانت تُردد صوته في كل بيان، وكل لقاء، وكل طلقة تُطلقها كتائب القسام في غزة والضفة. رفضت إسرائيل الإفراج عنه في صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، واعتبرته تهديدًا أمنيًا من العيار الثقيل، حتى جاء فجر الصفقة الجديدة.

اليوم، يقف "أبو البراء" حرًا، ويُخاطب غزة التي صمدت وقاتلت تحت الركام، ويُحيي رجالها الذين صنعوا هذا النصر بدمائهم. يقول: "غزة تنهض من بين الحطام.. تُعلّم الأمة دروس العزة، وتُعيد تعريف الكرامة".

خرج من السجن كما دخل، مؤمنًا بأن الطريق إلى القدس لا تُعبّد بالقرارات الدولية، بل تُفتح بالمقاومة. عاد ليُذكرنا أن في القدس رجالًا، وأن في السجون جمرًا لا ينطفئ، وأن الكلمة الأخيرة ستُقال دائمًا في الميدان.

عودة محمود عيسى ليست مجرّد خبر، بل صفحة تُضاف إلى كتاب النضال الفلسطيني، يُسطّرها من عايش السجون، وصمد أمام الجلاد، وخرج ليواصل الرسالة.. رسالة القدس، والسلاح، والعهد الذي لا يُكسر.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل