أقلام الثبات
قبل بدء الرئيس الأميركي دونالد ترامب رحلته الخاطفة إلى القدس وشرم الشيخ، صرَّح بنيامين نتانياهو أن "الحرب لم تنتهِ بعد"، فأجابه ترامب من على سلَّم طائرته، أن "الحرب قد انتهت انتهت انتهت"، وكررها له في كلمته أمام الكنيست، علماً أن نتانياهو لم يُدعَ لحضور توقيع الاتفاقية في شرم الشيخ، نتيجة "فيتو" وضعه على حضوره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي هدد بعدم التواجد في القِمَّة في حال حضرها نتانياهو.
والواقع الذي فرض نفسه على قِمَّة شرم الشيخ، بكل ما تمثِّل ومَن تمثَّل فيها، من الدول العظمى والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، أن "اليوم التالي" في قطاع غزة و"عموم فلسطين" بات أمراً واقعاً يستوجب حلاً، لنحو مليوني فلسطيني استنزفوا هول قدراتهم في اللجوء والنزوح ونزف الأرواح والأرزاق، ومعهم أكثر من خمسة ملايين في الضفة الغربية لا حل أمامهم سوى البقاء في فلسطين، حتى ولو غدت إقليماً ذا حكمٍ ذاتي شبيه بوضع الأكراد والدروز والعلويين في سوريا وبحماية أممية.
وقُبيل توقيع اتفاقية السلام في شرم الشيخ، تشابكت التعليقات التي استبقت التوقيع على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ولعل أبرزها، أن حماس قامت بعملية 7 أكتوبر وقتلت وأسَرَت، لتعود بعد سنتين من الحرب المدمرة عليها وسقوط 70 ألف شهيد وآلاف المعاقين والمفقودين، الى عقد اتفاقية تهدف الى تبادل الأسرى مع "الإسرائيليين".
تعليق آخر من الشارع "الإسرائيلي" يقول، أن "إسرائيل" لم تنتصر خلال سنتين من المواجهة مع حماس ضمن مساحة لا تتجاوز 360 كلم مربع، ورغم أنها دمرت قطاع غزة بالكامل، لكن مشهدية عودة أبناء شمال القطاع إلى "لا بيوت" ولا بنى تحتية، استفزت هذا الشارع الذي أعاب على حكومة نتانياهو خيبتها التاريخية، سواء لجهة عجزها عن القضاء على قدرات حماس عسكرياً، أم لجهة تحرير الأسرى أيضاً عسكرياً.
ولعل اللواء احتياط في الجيش "الإسرائيلي" إسحق بريك، هو الأكثر اطلاعاً على الوضع الداخلي الصهيوني وعلى واقع "جيش الدفاع"، وهو دائماً المبادر في التقييم والنقد، حيث شنَّ مؤخراً هجوماً لاذعاً على استراتيجية بنيامين نتنياهو تجاه قطاع غزة، مؤكداً أن هدف نتنياهو الرئيسي المعلن، وهو انهيار حماس قد فشل ولم يتحقق، وقد أدى ذلك لعزلة إسرائيل وأخذها نحو الهلاك لولا تدخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفرض حلاً لم يستطع نتانياهو الذهاب بعيداً في معارضته.
وأضاف بريك في مقال له في صحيفة "معاريف" العبرية يوم الأحد الماضي، أن هدف نتنياهو المتمثل في "تدمير حماس بالكامل" غير واقعي، وقد أوصل دولة إسرائيل إلى أدنى مستوى لها في تاريخها، وذلك بسبب تحديده هدفًا مستحيلًا لعدم جاهزية الجيش، وما دفع نتنياهو إلى هذه الخطوة كان الحفاظ على بقائه السياسي والشخصي، وليس أمن الدولة.
وأكد بريك، أن الضغط العسكري للجيش "الإسرائيلي" لم يكن هو ما دفع حماس إلى الاتفاق الحالي، كما يزعم المعلقون العسكريون والمراسلون الذين أصبحوا ناطقين باسم الجيش "الإسرائيلي" في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وقال بريك: نتذكر جميعاً تصريحات رئيس الأركان إيال زامير عند تعيينه رئيسًا للأركان، بأنه سينجح في هزيمة حماس وتحرير الأسرى بالضغط العسكري، حيث فشل سلفه اللواء هرتسي هاليفي، لكن زامير فشل في كل ما قاله: لم تُهزم حماس، ولم يُفرج عن أي أسير بالضغط العسكري، بل على العكس: قُتل ما يقرب من سبعين جنديا في عملية "عربات جدعون"، وجُرح عدد أكبر بكثير، ولو لم يوقف ترامب الحرب، لكانت ستؤدي إلى انقطاع كامل للعلاقات مع العالم، ومع الدول العربية التي وقّعت اتفاقيات سلام مع تل أبيب، ولكانت عملية انهيار في مناطق عديدة داخل إسرائيل، ولكنا وصلنا إلى نقطة اللاعودة، ووصلنا إلى طريق مسدود في وقت قصير، لولا دخول ترامب المشهد في اللحظة الأخيرة، وهنا يلتقي بريك مع زعيم المعارضة يائير لابيد الذي وقف في الكنيست بحضور ترامب وقال له: "شكراً لأنك أنقذت إسرائيل".
أجاد إسحق بريك كالعادة في توصيف الوضع الداخلي المأزوم داخل الكيان، والوضع الأكثر تأزماً لرئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، الذي وجد نفسه مطأطأ الرأس بحضرة ترامب وأقرَّ أمام الكنيست بأن الحرب انتهت، هو الذي أمضى سنتين من العدوان الإجرامي على قطاع غزة والضفة الغربية، دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن "اليوم التالي" الذي لطالما تحدث عنه، حتى جاءت خطة ترامب لتضع حداً لعنجهيته.
وإذا كانت خطة ترامب، قد فرملت محاولات نتانياهو الاستمرار في حربٍ "بلا أفق"، فقد أحسن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التعبير قبل مغادرته مطار شرم الشيخ حين قال: "لا أحد يستطيع الضغط على نتانياهو لوقف الحرب سوى الرئيس ترامب".
بدوره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أشاد في كلمته الختامية بعد التوقيع على الاتفاق، أن خطة ترامب يجب تطبيقها حرفياً والبدء بإعادة إعمار قطاع غزة اعتباراً من الغد، وهذه الخطة تفتح أمامنا آفاق حلّ الدولتين.
في الخلاصة، القضية الفلسطينية التي كانت منسيَّة قبل 7 أكتوبر 2023، ربما كانت كلفتها عالية وغالية على مدى سنتين من العدوان، لكن نتانياهو حصد الخيبة على المستوى الإستراتيجي، نتيجة الصمود الأسطوري لأبناء قطاع غزة، وإذا كانت أجواء "الشرق الأوسط الجديد" تخيِّم عليها أجواء إسقاط الحدود، ومن حق الأكراد إنصافهم بحقِّهم في دولة حرمتهم منها اتفاقية سايكس - بيكو عام 1916، فإن للفلسطينيين حق رفع الظلم الذي أنزله بهم وعد بلفور المشؤوم عام 1917، وهم الأولى من بين كل شعوب الشرق الأوسط بأن تكون لديهم دولة فرضوها بصبرهم وصمودهم ودمائهم، بصرف النظر عن شكل هذه الدولة، لكن الحكم السيادي الذاتي هو من حقهم قبل سواهم، في زمنٍ باتت فيه كل أقليَّة في الشرق تطالب بدولة أو حكم ذاتي.