الثبات-إسلاميات
منذ أن خُلق الإنسان، والنفس في داخله ميدانُ صراعٍ بين النور والظلمة، بين داعي السماء ونداء الأرض
وكلّ طريقٍ إلى الله لا يبدأ من باطن الإنسان، فهو طريقٌ مقطوعُ الأمل ومن هنا كانت تزكية النفس أو تطهيرها هي لبُّ التصوف وروحه، وسرُّ الجهاد الأكبر الذي لا تنقضي معاركه إلا بانقضاء الأنفاس
معنى التزكية
التزكية في اللغة تعني النماء والطهارة، وفي الاصطلاح هي تهذيب النفس من رذائلها حتى تصفو للحقّ سبحانه قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ وهذه الآية هي دستور المتصوفة في سيرهم، فالفلاح كلّ الفلاح أن يُنقِّي المرء باطنه من شوائب الغفلة، وأن يطهّر قلبه من علائق الهوى
الجهاد الأكبر
روى الإمام البيهقي عن النبي ﷺ أنه قال لأصحابه بعد عودتهم من غزوة: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: ((جهاد النفس))
فالنفس إن لم تُهذَّب استعبدت صاحبها، وإن لم تُروَّض أوردته موارد الهلكة
أما إذا خضعت لأنوار الإيمان، أصبحت مطيةً تُوصله إلى مقامات القرب
ولهذا قال سفيان الثوري: "ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نفسي، مرةً لي ومرةً عليّ"
منازل التزكية في طريق التصوف يرى الصوفية أن السير إلى الله يبدأ من التخلية ثم التحلية ثم المشاهدة. 1. التخلية: تطهير القلب من أمراض الكبر، والحسد، والرياء، وحبّ الدنيا
2. التحلية: تزيينه بصفات التواضع، والصبر، والرضا، والإخلاص
3. المشاهدة: وهي مقام الإحسان، أن يعبد العبدُ ربَّه كأنّه يراه قال أبو الحسن الشاذلي: "من لم يتأدّب بآداب النفس، لم يفتح له باب القلب"
أدوات المجاهدة
التصوف لا يقوم على الخيال أو التمنّي، بل على رياضةٍ نفسيةٍ دقيقة، وأُسسٍ عمليةٍ واضحة:
الذكر الدائم: ليبقى القلب حاضرًا مع الله الخلوة
والمحاسبة: ليعرف الإنسان قدر نفسه ومواضع تقصيره
صحبة الصالحين: فإنّ النفس تأنس بأهل الطهارة كما تأنف من أهل الغفلة
العمل الصالح: لأن النية وحدها لا تُثمر إن لم تصحبها حركة في سبيل الحق قال ابن عطاء الله السكندري في حكمه: "اجتهادُك فيما ضُمِن لك، وتقصيرُك فيما طُلِب منك، دليلٌ على انطماس البصيرة منك"
ثمار التزكية
حين تزكو النفس، يصفو النظر، وتنكشف الحجب، ويغدو القلب مرآةً تعكس أنوار الإله قال تعالى:﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾
فالقلب السليم هو غاية التصوف ونتيجة الجهاد الأكبر لا يُقاس غناه بالمال ولا بجاهٍ دنيوي، بل بالطمأنينة التي تسكن بين أضلعه، وبالنور الذي يسري في سرّه
التصوف الحق ليس انطواءً عن الحياة، بل هو إصلاحٌ للباطن حتى يُصلح الله به الظاهر هو أن يعيش الإنسان في الدنيا ولا تسكن الدنيا في قلبه، وأن يجاهد نفسه كل يوم ليكون عبدًا خالصًا لله لا للأهواء ومن أدرك سرّ تزكية النفس، علم أن معركته الحقيقية ليست في الخارج، بل في داخله؛ وأن النصر الأعظم هو أن ينتصر الإنسان على نفسه.