أقلام الثبات
بعد سنتين من الحرب المتوحشة على غزة، والمواجهة الأسطورية الشجاعة للمقاومين، وصبر وصمود المدنيين الذين تحملوا القتل والدمار والتشريد والجوع ولم ينقلبوا على المقاومين ويحمّلوهم مسؤولية ما جرى حتى لا يبرّؤوا العدو وحلفاءه من جرائم الحرب، وتفهموا وأيدوا الأهداف النبيلة "لطوفان الأقصى"، وإن لم تكن النتائج وفق ما كانوا يتمنون، لكنهم ربحوا معركة الصمود في الأرض، والثبات على المبادئ، مع كل الأثمان الغالية التي دفعوها التي قاربت 250 ألف شهيد وجريح من أصل مليوني فلسطيني، وتدمير غزة بالكامل، أي تدمير أكثر من 70 عامًا من البناء والأملاك وما جمعوه من أموال وذكريات.
قاتل أهالي غزة حتى الرمق الأخير، حتى جاءت محاولة اغتيال قيادة حماس في قطر، والتي يبدو أنها لم تفشل، بل حقّقت نجاحًا كبيرًا، حيث استطاعت "إسرائيل" وأمريكا وضع قيادة حماس أمام خيارين؛ إما الموافقة على خطة ترامب، أو "الجحيم"؛ وفق تهديد ترامب، وسهّل على الوسطاء العرب وتركيا إجبار قيادة حماس على التوقيع، لأنها صارت بين خياري القتل والاغتيال أو النفي إلى "اللامكان"، فلن تسمح أمريكا لأي دولة عربية أو إسلامية بقبول لجوء قيادة حماس إليها؛ كما كان الحال بعد محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن، ويبدو أن العمليتين متشابهتان، ولم يكن القتل هدفاً!
لا شك أننا نرحب ونفرح بوقف القتل والإبادة الجماعية لأهلنا في غزة، لكن السؤال المطروح: هل انتهت الحرب على غزة، أم انتهت غزة؟
تاريخ التفاوض مع العدو "الإسرائيلي" وأمريكا يثبت عدم التزامهما بأي اتفاق، وينقلبان عليه بعدما يأخذان ما يطلبان، ويصرّحان بأن السيادة الأمريكية "الإسرائيلية" فوق كل سيادة دولية، والخوف أن يغدر التحالف الأمريكي - "الإسرائيلي" بالمقاومة في غزة كما غدر بالمقاومة في لبنان بعد اتفاق وقف النار، فلم تلتزم "إسرائيل"، به ولا زالت تشن حربها بالاغتيال والقصف، وتنصّل الوسيط الأمريكي وأعلن أنه لا يستطيع تقديم ضمانات أو الضغط على "إسرائيل"، فماذا لو نكثت "إسرائيل" وأمريكا بالاتفاق بعد استرداد الأسرى "الإسرائيليين"؟
الأخطر في خطة ترامب أنها تقوم على ثلاثة مبادئ أسوأ من بعضها، ونتيجتها الوحيدة إبقاء أهالي غزة في أرضهم "مؤقتًا"، فقد حدّدت الخطة ثلاثة أهداف رئيسية دون مقابل مضمون، وفق التالي:
- استرداد الأسرى "الإسرائيليين" أحياء وأموات، وتحقيق أول هدف "إسرائيلي" للحرب.
- إنهاء سلطة "حماس" وتعيين سلطة بديلة ليست فلسطينية إنما خارجية برئاسة ترامب، ومساعدة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وهذا هو الهدف الثاني.
- نزع سلاح حماس وحركات المقاومة، وهذا هو الهدف الثالث للحرب.
خطورة تشكيل "إدارة خارجية" لغزة بعنوان "مجلس السلام" سيعطي الحق لهذه الإدارة إقرار قوانين لغزة وفق مصالحها، ويصبح الفلسطينيون في غزة كأي مهاجر أجنبي إلى أمريكا؛ تطرده ساعة تشاء وتسلبه حقوقه وحرية الدخول والخروج، وستكون غزة نموذجًا "تجريبيًا" لحكم العالم العربي، بعد تجزئته إلى إمارات طائفية وقومية، وسيكون مقدمة لإلغاء الدولة الفلسطينية وحل الدولتين، فإذا نجحت تجربة مجلس "السلام الأمريكي" في غزة، فما هو المانع أن تتمدّد هذه السلطة للضفة الغربية والقدس بعد فشل السلطة الفلسطينية واتهامها بالفساد الإداري من قبل أمريكا و"إسرائيل"، والتي يمكن إسقاطها بشكل سريع لمجرد قطع التمويل المالي عنها دون أي حملة عسكرية.
"خطة ترامب" لا تبعث على التفاؤل، وتطلق إشارات إنذار للمقاومة في لبنان والعراق وإيران واليمن.
"خطة ترامب" ليست انتصارًا للمشروع المقاوم العربي - الإسلامي... إنها انتصار "مؤقت" للتحالف الأمريكي - "الإسرائيلي" - العربي - التركي، ومحاولة لالتقاط الأنفاس للمقاومة الفلسطينية خصوصًا، بالتلازم مع الخطر المُحدق بمحور المقاومة ابتداء من لبنان، لأنه إذا نجح ترامب في غزة سيتجه نحو لبنان لتكريس "منطقة ترامب الاقتصادية"، سلمًا أو حربًا.
لا أدين توقيع "اتفاق الضرورة"، لكن لا أرحب ولا أثني ولا أحتفل به، وإن فرحت سأكون مثل "أم" انتظرت ان يعود ابنها حياً، لكنه استشهد، فرضيت وفرحت باسترداد أشلائه.. وأدعو أن لا نصفّق كثيرًا لاتفاق غزة، بل أن نستعد لمواجهة ما ينتظرنا في لبنان، ونحن قادرون على الصمود والمواجهة… فلا تنهزموا ولا تيأسوا.
هل انتهت غزة… أم الحرب على غزة؟ _ د. نسيب حطيط
الجمعة 10 تشرين الأول , 2025 10:32 توقيت بيروت
أقلام الثبات

