خاص الثبات
في مثل هذا اليوم انطلقت خطبة الوداع للشهيد الأسمى سماحة الأمين العام حسن نصر الله رضوان الله عليه، ليست وداعًا بالمعنى البسيط، بل إعلانًا عن قوة، ثباتًا، صمودًا، وعهدًا بأن لا يُسقط الشعب، مهما قاسى ومهما طال الظّلام.
تلك الكلمات لم ترد من فراغ، بل صُنعت من الألم والنية والتحدي المُستحقّ، من دم الشهداء ومن عزم الجرحى ومن وجع أهل الغياب. واليوم، حين نستعيد بعضًا من تلك اللحظات، نجد أنّها تتواءم مع ما نعيشه الآن؛ فلا سقوط رغم القصف، ولا موطئ قدم للعدو رغم كل المحاولات.
حين يعتلي الشهيد منبر الوداع، لا يتكلم بلسانه فقط، بل يتكلم بدمه، بتاريخه، بثباته، وبكل لحظة صبرٍ ووجعٍ وكرامة حملها في روحه ومضى، والسيد الشهيد حين نطق بكلماته الأخيرة، لم يكن يودّع الحياة بقدر ما كان يوقظ الضمائر، ويُسلم الراية، ويزرع بذور الصمود في قلوب من بقوا بعده، خطبة الوداع لم تكن خطابًا عابرًا، بل كانت وصية مقاومة، نشيد كرامة، وتعهدًا لا ينكسر، فكل حرفٍ قاله السيد كان بمثابة طعنة في خاصرة الظلم، وجرس إنذار للغافلين، وماء حياةٍ للواقفين على حافة اليأس، لقد تحدث باسم كل المظلومين، باسم الأرض التي لا تُباع، وباسم الدم الذي لا يساوم، وترك لنا في كلماته خارطة طريق لا يمكن أن يضلّ من اتبعها، تحدّث عن الوفاء كمن عاشه، وعن الشهادة كمن سبقها، وعن الوطن كمن اختلط بترابه قبل أن يُدفن فيه، لم يكن الوداع حزنًا بل كان انتصارًا، وكان وجه السيد في تلك اللحظة وجهًا لا يشبه الموتى، بل يشبه الأولياء حين يُبعثون من جديد، لم تكن الخطبة نهاية، بل بداية لمرحلة يتقدّم فيها الدم على الصوت، وتتراجع الهتافات أمام وقع الأقدام التي لا تتراجع، لقد علمنا السيد أن الشهادة ليست موتًا، بل موقف، وأن الكلمة الصادقة قد تساوي في مفعولها آلاف البنادق، وأن من يحب حقًا لا يخون، ومن يؤمن لا يساوم، ومن يودّع على عجل، يترك فينا شيئًا لا يزول، هكذا كان وداع السيد، صامتًا بصوته، صاخبًا بأثره، خالدًا لا ينتهي.
من خطبة الوداع إلى حاضرنا: انعكاسات ملموسة
حين يُفجّر الطغيان الأجهزة اللاسلكية أو يستهدف المدنيين في الجنوب أو الضاحية، نحن لا نُسقط فقط منازل، بل يرمون قاتلان إلى قلب العزّة والكرامة، ليختبروا صبرنا وإيماننا الراسخ، في ميادين لا يراها إلا الله والمقاومون.
حين تُقِم بعض الدولُ مأدبها على وقع الجوع والدم، أو تدافعُ بدبلوماسية زائفة عن “السلام” فيما تُتيح للإبادة أن تستمرّ، فإنّنا نستعيد تلك الخطبة لنردد أنّ السلام الحقيقي ليس في الصمت أو الاستسلام، بل في كرامة تُستعاد، ومقاومة تُقوّى، وعدالة تُفرض.
حين يُشيّعون الشهداء بلا حدٍّ للطائفية، يُجمعون الأقوات على الصبر، ويتوالى العطاء من أهل لبنان وكل المحيط، نُدرك أنّ معنى الوطن لا يُختصر في مساحة أرض، وإنما في وحدة القلب والروح والوجع والمأساة المشتركة.
إذا كانت هذه خطبة الوداع، فلتكن وِدادًا مع دمائنا، ولتكن عهدًا مع أرواحنا، وتجديدًا لقرارٍ لا يلين:
لن نقبل أن تُكتب تضحياتنا بفواتير سياسية، أو تُضيع باسم “حلول دولية” تدّعي السلام فيما تمنح الظالم أوهامًا.
لن نخضع للخشية ولا للخنوع؛ فالأمل أقوى من القنابل، والإيمان أشدّ من كل حصار.
سنمضي، رغم الدمع، رغم الألم، رغم سنين العدوان، لأن الرحمة التي بشّر بها مصدرو المقاومة، شفعة الحق، تأبى أن تُخمدها أصابع الضغينة أو أصوات النفاق.
في خطبة الوداع كانت الكلمة أمانة، والرؤية وعدًا وعدالة، واليوم هي صفحات نكتبها بدماء الشهداء وعرق الجرحى، لننادي معًا: النصر، مهما طال الزمن، لا محالة آتٍ.