أقلام الثبات
تقترب الذكرى السنوية الأولى لإسقاط النظام في سوريا، ولا تزال سوريا تعيش حالة الفوضى ولا دولة، وتقضم جغرافيّتها "إسرائيل" في الجنوب، وتركيا في الشمال والانفصاليون الأكراد شرق الفرات، بانتظار تقرير مصير "الساحل العلوي" الغني بالنفط والغاز، ليكون من حصة روسيا، أو بشراكة أمريكية.
لا يمكن توصيف الحالة السياسية التي تحكم سوريا الآن بأنها "دولة"، فهي لم تكتسب شرعية النظام وفق المسارات المتعارف عليها دوليًا لاستلام الحكم، سواء بالمعطى الدستوري أو الانقلاب العسكري، بل تمثل حالة غريبة ونموذجًا جديدًا لاستلام الحكم. فالرئيس الشرعي بشار الأسد لم يتنازل عن الحكم، ولم يتم خلعه من مجلس الشعب الذي انتخبه، ولم يُسقطه انقلاب عسكري، ما جعل سوريا تعيش الفراغ الدستوري والتشريعي بدون جيش وطني، ولا يمكن وصف هذه الفصائل والجماعات التكفيرية غير المنسجمة والمشتتة بأنها جيش رسمي بدون لباس موحد حتى صارت الرتب العسكرية "أضحوكة"، فيتم ترقية الجندي أو العنصر العادي أو المزارع والعامل أو الراعي أو الأمي إلى رتبة "عميد" أو عقيد" وفق مزاج المسؤول؟
نجحت أمريكا في استثمار خدمات الجماعات التكفيرية؛ من "أفغان العرب" إلى "القاعدة" ثم "داعش" إلى جبهة "النصرة" وتحويلها إلى "هيئة تحرير الشام"، وربح "أبو محمد الجولاني" جائزة حسن السلوك وبراعة التنفيذ وفق الإدارة الأمريكية، فأعطته لقب "الرئيس المؤقت" لسوريا بدل لقب "الخليفة"، الذي لم ينجح في العراق سابقًا، بانتظار أن يتم تكرار التجربة السورية في الانتخابات العراقية القادمة. وقد استطاع الجولاني تنفيذ مهام أساسية في المشروع الأمريكي، وقد يتم تكليفه بمهام أخرى، قبل إسقاطه اغتيالًا أو إبعادًا بيد تركيا، أو بيد الجماعات التكفيرية؛ كما فعلت مع "ابن لادن" و "أبو بكر البغدادي" وغيرهما، اما المهام التي نفذها الجولاني والجماعات التكفيرية فهي:
- الانقلاب على "داعش"، ونجاحه في تقديم نموذج تكفيري يمكن تسويقه أمام الرأي العالمي وإمكانية "إعادة" تدوير الجماعات التكفيرية إلى جماعات مدنية وسياسية تتنازل عن فكرها التكفيري العنيف ونظام الشورى الإسلامي إلى "الديمقراطية" الغربية، كنسخة منقحة ومعدلة عن نسخة "طالبان" في أفغانستان.
- مهمة ملء الفراغ واشغال الفترة الانتقالية بين إسقاط نظام الأسد وتأمين البديل في سوريا الجديدة.
- تأمين الغطاء الشرعي لتفكيك سوريا وتقسيمها والسير بها نحو "الفيدرالية" أو "الكونفدرالية"، مع تأمين المطالب "الإسرائيلية" التي رفض الرئيسان حافظ وبشار الأسد إعطاءها "لإسرائيل"، والموافقة على السلام معها والتنازل عن الجولان والجنوب السوري، وتسهيل ولادة الإقليم الكردي؛ كما حال الأكراد في العراق والإقليم العلوي.
الاستراتيجية الأميركية تعتمد على استثمار الأدوات لتنفيذ مشاريعها ولا تعتمد المجاملات والعواطف، وتعتمد منظومة "حكام المراحل"، فلكل مرحلة حاكمها، فمرة يكون حاكمًا أمريكيًا مباشرًا، ومرة بهيئة حاكمة دولية، كما "مجلس السلام" الذي أعلنه ترامب لحكم غزة، أو يكون حاكمًا أمريكيًا يحمل جنسية بلده، أو تكفيريًا تنصبه أمريكا "حاكمًا مؤقتًا"، بعد تبييض سجله وإلغاء جائزة القبض عليه.
الوقائع في سوريا تشير إلى اقتراب مرحلة تغيير المشهد السياسي والاستغناء عن "الجولاني"، بعد تثبيت ضم "إسرائيل" للجولان والجنوب السوري، واعتراف أمريكا بذلك، وتثبيت حالة "الإقليم الكردي"، وقد تبادر أمريكا لبدء كمرحلة التغيير بإشعال الفتنة بين الجماعات التكفيرية؛ استنكارًا ورفضًا لتخلي "الشرع" عن الشرع الإسلامي، أو بين الفصائل التكفيرية؛ بين جماعات الخارج والداخل، بالتلازم بتطوير الصراع بين الأكراد والحكم المؤقت في دمشق، دون إغفال الصراع التركي - "الإسرائيلي" حول المغانم في سوريا، والقرار السياسي، فلن تقبل "إسرائيل" بالشراكة التركية معها في سوريا، بالرغم من كل الخدمات التي قدمتها تركيا "لإسرائيل"، ولا تزال، بالإضافة إلى الدور التركي الذي أنهك سوريا وأسقط نظام الأسد.
لابد من التعامل مع الحالة السورية بعقلانية وموضوعية دون تسرع، فهي حالة غير مستقرة وغير دائمة، فإن الوقائع تدل على أنها مرحلة ظرفية، وأن السلطة الحاكمة هي سلطة وظيفية مؤقتة، ومن الغباء التعامل معها كدولة مستقرة دون نسيان الماضي السوري الذي سبق مرحلة "آل الأسد"، حيث كانت أعمار أنظمة الحكم تتراوح بين أشهر وسنتين، وتسقط بالانقلابات والسجن، وقد تعود هذه المنظومة إلى الواجهة من جديد، وبشكل دموي وأعنف.
حمى الله الشعب السوري الشقيق... وحمى الله سوريا من التقسيم والاحتلال والاغتصاب المتعدد الجنسيات.
متى سيتم إنهاء خدمات "الجولاني"؟ ــ د. نسيب حطيط
الأربعاء 22 تشرين الأول , 2025 10:49 توقيت بيروت
أقلام الثبات

