جمهورية الموز اللبنانية - عدنان الساحلي

الجمعة 05 أيلول , 2025 04:04 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

ينطبق على لبنان في ظل الهيمنة الأميركية الحالية عليه، وصف الكاتب الأميركي أوليفر هنري، الذي صاغ مصطلح جمهورية الموز (Banana Republic)؛‏ وهو مصطلح ساخر يطلق لانتقاص أو لازدراء دولة غير مستقرة سياسيا؛ وليس لها ثقل سياسي واقتصادي بين دول العالم، يعتمد اقتصادها على عدد قليل من المنتجات كزراعة الموز مثلا، ومحكومة بمجموعة صغيرة ثرية وفاسدة، وهذا المصطلح ما يزال يستخدم بطريقة مهينة لوصف حكومات بعض البلدان التي لا تستطيع العيش من دون تبعية لحكام الولايات المتحدة وغيرها من دول الاستعمار الجديد، التي تسرق خيراتها وتمنعها من التطور واللحاق بركب الدول المتقدمة والغنية.
والحال، أن سفارة أميركا في لبنان عملت ونجحت في استكمال سيطرتها وهيمنتها على كل شيء في لبنان، وبعدما افقرت لبنان واللبنانيين على أيدي اللصوص من تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف الذين يعملون تحت رعايتها وحمايتها؛ وعملت على إخراج العملات الصعبة إلى خارج لبنان، تنفيذا للقرار الأميركي بتجفيفه من العملات الصعبة، لحصار سورية بموجب "قانون قيصر"، وللضغط على اللبنانيين لكي يوجهوا غضبهم نحو المقاومة. نجحت تلك السفارة في أمركة الحكم، برأسي السلطة التنفيذية فيه؛ وفي عدم جرأة أي رأس أو مسؤول آخر على تحدي الإرادة الأميركية ورفض أوامرها وشروطها.
وسبق أن كتبت أن قول إن الجيش هو الحّل، كان تردادا وصدى لزيارات قائد الجيش في ذلك الوقت، جوزيف عون إلى واشنطن؛ ولقاءاته الدائمة مع السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا؛ وجولاته معها على المناطق؛ ومرافقته لها في زياراتها وتفقدها لشؤون الرعية اللبنانية، بما يتناقض مع دورها كسفيرة، ويتعارض مع صلاحياتها المحكومة بالتنسيق مع وزارة الخارجية.

وعندما وقع الخلاف السياسي والقانوني حول التمديد للعماد عون في قيادة الجيش، شاهدنا السفيرة الأميركية تزور بكركي ثم معراب، لينطلق منها صوت البطريرك بشارة الراعي؛ وصوت رئيس حزب القوات سمير جعجع، يلحان ويؤكدان على التمديد للعماد عون، وكأن الجيش بات بالنسبة لهما مؤسسة خاصة بطائفة بعينها وليست لكل الوطن، بل إن لجنة خماسية تشكلت من أميركا وفرنسا والسعودية وقطر ومصر، أعطت نفسها صلاحية الوصاية على لبنان، وضغطت من أجل التمديد لعون، حتى خيّل للمواطن اللبناني أن الأميركيين ومن يتبعهم في الخارج والداخل يعتبرون المؤسسة العسكرية لهم وتحت تصرفهم، مادامت توفر لهم تسهيلات عسكرية، في المطارات والقواعد الجوية اللبنانية وثكنات الجيش اللبناني، خصوصاً في تحويل مطار حامات العسكري، إلى قاعدة عسكرية أميركية، وكذلك تحويل السفارة الأميركية في عوكر إلى مدينة عسكرية أميركية تشبه المنطقة الخضراء في بغداد، وهناك وقائع عن الوجود العسكري والأمني الأميركي في لبنان تحتاج إلى صفحات لشرح تفاصيله وتفنيد عديده ومهامه.. كل ذلك مقابل دعم عيني للجيش لا يتجاوز المائتي مليون دولار سنوياً، من الأسلحة والآليات المستعملة، التي أحالها الجيش الأميركي إلى التقاعد، بعدما تخطاها الزمن وأصبحت خردة.
كما تبرز الهيمنة الأميركية، في منع الجيش اللبناني من الحصول على أسلحة حديثة، أو دعم من دول أخرى، لا يرضى الأميركي عنها. وفي منعه من استعمال السلاح الأميركي ضد العدو "الإسرائيلي". وحادثة شجرة العديسة ماثلة أمامنا.
وتبرز كذلك، في إباحة الحدود الشرقية للجيش البريطاني؛ وفي قيام قوات بريطانية بالتدرب في لبنان، على القيام بعمليات مفترضة في حرب غزة.

والأمر نفسه بالنسبة للقضاء، الذي كان محصناً عن النقد أو التداول في أوضاعه. لكن إطلاق سراح العملاء مؤخراً، مضافاً إلى ما سبق من التواطؤ مع شهود الزور، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ وعدم الإعتذار عن ظلم الضباط الأربعة. وصولاً إلى كسر قرار المدعي العام المالي علي إبراهيم، بوضع إشارة منع تصرف على أصول عشرين مصرفاً لبنانياً، تشمل أملاك رؤساء ومجالس إدارات تلك المصارف. ثم بعد الذي حصل مع القاضية غادة عون وقطع الطريق على ملاحقتها لمهربي أموال المصارف والمودعين. وكذلك ما جرى مع القاضي محمد مازح، الذي دفع ثمن محاولته منع السفيرة الأميركية من التدخل في الشؤون اللبنانية. وصولاً إلى تحقيقات قضية انفجار المرفأ ومحاولات التسييس التي تحكمها. كل ذلك يؤكد ما يقال من أن القضاء في تبعيته للسلطات السياسية، التي تعيّن أعضاءه، هي ذاتها تجعله تابعاً للمشيئة الأميركية، التي تدير السياسات اللبنانية، بما يسمح بالقول إن الأميركيين نجحوا في جعل لبنان إحدى حدائقهم الخلفية، بل هو اشبه بمستعمرة يديرونها حسب مشيئتهم.

والواقع، أن ما نشاهده هذه الأيام أقوى وأقسى من هذا الكلام، الذي سبق أن كتبناه في مراحل سابقة. فإطلاق سراح عملاء محكومين قبل انتهاء محكوميتهم؛ والإفراج عن أمين سر عصابة اللصوص التي أفقرت لبنان، رياض سلامة من سجنه، طبعا بأمر أميركي، فسلامة هو الذي نفذ الأمر الأميركي، مع جمعية المصارف، بتهريب ودائع اللبنانيين والعرب، من المصارف اللبنانية، إلى الخارج، من دون أن يجرؤ مسؤول على محاسبة الفاعلين ومعاقبتهم. في حين أن أحدا في لبنان، لا يستطيع تحمل عبء إطلاق سراح عميل "إسرائيلي"، ما لم يكن محمياً بقرار أميركي.
وهل ينسى المتعاملون مع المصارف اللبنانية، كيف كانوا يتفاجؤون بحقيقة سيطرة وزارة الخزانة الأميركية، على إدارة مصرف لبنان والمصارف الخاصة، من خلال إجبارهم على تقديم كشوفات بكل حركتهم المالية وبمصادر ودائعهم، لتسلّم في آخر المطاف للرقابة الأميركية، بحجة محاربة تبييض الأموال.

والحال، أن الأميركيين نجحوا في امركة السلطة اللبنانية بالكامل، ومن يتجول في مطار بيروت يدرك معنى ومغزى هذا القول. فموظفو السفارة الأميركية يديرون كل حركة "مطار رفيق الحريري الدولي". وكل موظفي المطار: مدنيين وعسكريين وأمنيين وجمارك والسعاة وعمال الشحن، يخضعون لإمرة موظف أو موظفة من السفارة الأميركية، تجلس، أو يجلس على كرسي وأمامه طاولة يعاين منها حركة السكانر وبوالص الشحن وغيرها. 

كل ذلك يحدث، في ظل تحقق المسعى الأميركي-"الإسرائيلي"، بإقامة "اسرائيل العظمى" التي تهيمن بسياساتها ونفوذها على معظم الأنظمة العربية، في تمهيد لإقامة "إسرائيل الكبرى"، التي أعلن عنها نتنياهو، التي يحتل فيها الأرض الواقعة بين نهري النيل والفرات. فهل هذا الخضوع اللبناني للمشيئة الأميركية، قبول مسبق بالتحول إلى رعية من رعايا مملكة اليهود الثالثة؟


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل