أقلام الثبات
وضعوه على مقصلة التقطيع داخلياً وإقليمياً ودولياً، بعد أن وضع بلداً عمره سبعة آلاف سنة على طاولة التشريح خلال أقل من سبعة أشهر.
درَّبه البريطانيون، وأشرف على "تعليفه" الأميركيون والصهاينة.. استورده الأتراك والخليجيون، وجعلوه أضحية المأدبة التاريخية، بعد أن جعل سوريا وليمة الناهشين، وارتضى أن يكون أداة تقسيم وتفصيل الجسد الحضاري العتيق، وتوزيع أشلاء وطن على أطباق، ولن يجِد الشرع مَن يُصلِّي عليه عند رحيله، بعد أن نُحِر على شرع الديانات الإبراهيمية الثلاث، ولا أحد يفهم تمتمات الآخر في وداعه، ربما لأن الصلاة على المُنتحِر حرام!
منذ الثامن من ديسمبر 2024، ينكر أحمد الشرع أن سقوط نظام الرئيس بشار الأسد هو نتاج ثورة من قاموس "الربيع العربي"، في محاولة منه ربما لتجيير الفضل حصراً لهيئة تحرير الشام، بهدف التخفيف من حدة الوهج الشعبي في حق صنع سوريا الجديدة ولكن، ما من دولة عربية شهدت "ربيعاً" انتهى إلى تمزيق الكيان الجغرافي والسياسي والاجتماعي كما انتهى إليه "ربيع سوريا"، حتى في ليبيا نفسها.
ولعل أولى "إنجازات" أحمد الشرع، أن سوريا ستغدو أربعة أقاليم، ثلاثة منها تسمى "دول حبيسة"، لا تمتلك إطلالة على البحر: إقليم الأكراد في الشمال الشرقي، وإقليم الدروز في السويداء، والإقليم السني في الوسط والشرق.
وقد يقول قائل، إن هناك 44 "دولة حبيسة" في العالم، ومنها سويسرا والنمسا على سبيل المثال ولكن، أين الجوار الحضاري الذي أسس له أحمد الشرع عبر مجازره، ليجعل من أقاليم سوريا المتناحرة سويسرا أو النمسا؟!
أورث سوريا الثارات، العرقية والدينية والمناطقية، عبر الأعراق التي جاء على رأسها كما الفاتح لاقتحام دمشق، واعتقد واهماً أن حكم بلاد بحجم سوريا وطبيعتها الحضارية والديمغرافية والثقافية، يمكن أن يحصل عبر قوات فصائلية تكفيرية فنفر منها المجتمع المُدُني السوري، وعمِل الشرع ما استطاع على سحبها من المدن إلى حيث قام بغزوات وفتوحات في الداخل السوري المُختلِف، فوقع في المحظور الكبير بثلاث كبوات، أولها مع الأكراد، وثانيها مع العلويين، وثالثها مع الدروز، ولو أن "فعلته السوداء" مع السويداء جعلت من تاريخ 14 تموز 2025 بداية تاريخ تمزيق سوريا.
الكبوة الأولى التي لا قيامة للشرع منها كانت مع الأكراد، عندما لم يمتثل للمطالبات الدولية والإقليمية والداخلية الكردية، بوجوب التخلي عن الأجانب الذين ترفض "قسد" انضمام قواتها إلى وزارة الدفاع بوجودهم، ولهذا السبب تعرقل تطبيق اتفاقية شهر آذار الماضي التي تم توقيعها بين الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي.
والكبوة الثانية التي أيضاً لا قيامة للشرع منها، هي مجازر الساحل بحق أبناء الطائفة العلوية، الذين سكتوا على الضيم لأن كل جريمتهم أنهم محسوبون على نظام الرئيس بشار الأسد، لكن هذا لا يعني أن سكوتهم سوف يطول، لا بل أعلنوا منذ أيام قيام إقليم وسط وغرب سوريا، وأن شخصيات علوية سيتم تكليفها بقيادة الإقليم بدعم روسي، سواء كان جميل الحسن أو سهيل الحسن أو الأخوين أيمن ومحمد جابر وآخرين، إلى جانب رامي مخلوف على رأس المستثمرين لإعادة إعمار الساحل بحماية روسية ومشاركة استثمارية روسية أيضاً، وقد تلقى الوزير أسعد الشيباني هذه الأوامر الروسية خلال زيارته الأخيرة لموسكو ووافق عليها.
الكبوة الثالثة جاءت ثابتة، وسقط فيها الشرع بلا رجاء قيامة، وسقطت معه سوريا الواحدة الموحَّدة إلى الأبد، وبات يوم 14 تموز 2025 لعنة وجودية في تاريخ بلاد كانت ذات حضارة ومبادئ ومواقف قومية أكبر من أحمد الشرع ومُشغِّلِيه.
يقول الشيخ حكمت الهجري: قبل يوم واحد من هجوم قوات الأمن العام والفصائل التكفيرية على السويداء، كانت اللجنة التي عيَّنَاها للتفاوض مع دمشق تعمل بشكل طبيعي، وفوجئنا بالهجوم الغادر في 14 تموز، حيث ارتُكبت بحقنا أشنع أنواع الجرائم والمحرَّمات، بلا تمييز بين طفل وشيخ ورجل وامرأة، في عمليات ذبح وتعذيب واغتصاب وتدمير وتهجير ونهب وحرق للممتلكات، ولذلك نعلن الانفصال عن دمشق وهذا قرار نهائي وبدأنا بتشكيل لجان إدارة شؤوننا الذاتية المستقلة.
أدى أحمد الشرع دوره المشبوه، كما لم يسبقه إليه أي انقلابي في التاريخ المعاصر، ورحيله عن المشهد قد حُسِم، ومسألة وقتٍ قصير أشبه بترتيبات "دفن الموتى"، في حين تنتظر سوريا ما هو أعظم وأفظع، وليس ما حصل في السومرية بضواحي دمشق وأدى الى تهجير 80% من سكانها العلويين سوى بداية المواجهات الداخلية بين الأقاليم المستحدثة.
ما حصل في السومرية ليس سوى مناوشات أولية أمام ما يحصل وسوف يحصل في المزة 86، لأن السومرية كانت تأوي نحو 25 ألف علوي على أرض يملك معظمها أبناء المعضمية من الطائفة السنية ، بينما المزة 86 يسكنها أكثر من مئتي ألف علوي بنوا منازلهم على أرض للدولة وتعتبر مُخالِفة، وتتولى بعض الفصائل محاولة تهجيرهم منها في أوسع عملية فرز ديموغرافي داخل العاصمة دمشق.
إنها البداية في التقسيمات الداخلية على مبدأ الاستقواء الذي انتهجه أحمد الشرع، لكن المآسي لم تنتهِ بعد، خصوصاً بعد محاولة كل إقليم ترسيم نفسه.
- إقليم السويداء "أمَّن" حدوده الجنوبية مع العدو الصهيوني، ويريده الشيخ حكمت الهجري دولة نموذجية، بفضل الحماية "الإسرائيلية" والتبادل الاقتصادي، التجاري والمعيشي، عبر معبر الكرمل نحو "ممر داود"، الذي سيخترق درعا نحو السويداء ومنها إلى التنف وصولاً إلى إقليم الأكراد، ومن هناك تكتمل الخطة المرسومة لهذا الممر، نحو العراق والخليج شرقاً، ونحو تركيا وأوروبا شمالاً.
- إقليم الساحل (وسط وغرب سوريا)، يعتمد على الدعم الروسي مع تفاهم أميركي، وهذا الإقليم لو "ابتلع" حمص كبرى المحافظات السورية فهو سيقطع الطريق على إقليم الوسط السني ويمنعه من إطلالة بحرية تحلم بها بعض الفصائل عبر حمص للوصول الى مدينة طرابلس اللبنانية.
- إقليم الشمال الشرقي، حيث "الدولة الكردية"، أقوى أقاليم سوريا، سياسياً وعسكرياً وتنظيمياً واقتصادياً، وهو على علاقة ممتازة مع "إقليم السويداء" وسوف يربط بينهما "ممر داود"، وعلى علاقة أكثر من ممتازة مع مناطق الساحل( إقليم وسط وغرب سوريا)، ومن السهل على الأكراد بوجود 20 ألف مقاتل منهم في مدينة حلب، إنشاء ممر آمن من حلب الى شمال إدلب وصولاً إلى اللاذقية وبلوغ شاطئ الإطلالة البحرية.
- يبقى إقليم الوسط الذي يمتد من حماه إلى تدمر وصولاً إلى دمشق، وهو الإقليم الأوحد الذي ليس على علاقة حسن جوار مع أحد، ويكاد داخله السني المعتدل المسالم يختنق من ممارسات الطارئين على سوريا من التكفيريين، وتبقى لهذا الإقليم قيمته المعنوية الكبيرة، ليس فقط لأنه يضم العاصمة التاريخية دمشق، بل لأنه يضم الغالبية الشعبية السنية التي ترمز إلى حضارة بلاد الشام، وقد تكون كل سوريا بانتظار "ثورة" من هذه الغالبية الحبلى بالعائلات العريقة والشخصيات البارزة على كل المستويات، عسى أن تبقى دمشق عاصمة الأقاليم ضمن اتحاد فيدرالي يحفظ سوريا من مخاطر التمزُّق التقسيمي الحاد والصراعات الطائفية.