الثبات- تصوف
بما أن الزهد مقام قلبي رفيع المنزلة لأنه تفريغ القلب من التعلق بسوى الله تعالى، كان الوصول إليه أمرا هاما يحتاج إلى جهود كبيرة ووسائل ناجعة، وأهمه صحبة المرشد الذي يأخذ بيد المريد، ويرسم له الطريق الصحيح، وينقله من مرحلة إلى مرحلة بحكمة ودراية، ويجنبه مزالق الأقدام.
فكم من أناس أخطأوا الطريق فجعلوا الزهد غاية، ولبسوا المرقّع من الثياب، وأكلوا الرديء من الطعام، وتركوا الكسب الحلال، وحسدوا أهل المال، وقلوبهم مفعمة بحب الدنيا، وهم يحسبون أنهم زاهدون
وما وقعوا في ذلك إلا لأنهم ساروا بأنفسهم بعيدين عن صحبة الدليل الخبير، وفي هؤلاء يقول المناوي رحمه الله تعالى: "فالزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد منها، وقد جهل قوم فظنوا أن الزهد تجنب الحلال، فاعتزلو الناس، فضيعوا الحقوق، وقطعوا الأرحام، وجفوا الأنام، واكفهرّوا في وجوه الأغنياء، وفي قلوبهم شهوة الغنى أمثال الجبال، ولم يعلموا أن الزهد إنما هو بالقلب، وأن أصله موت الشهوة القلبية، فلما اعتزلوها بالجوارح ظنوا أنهم استكملوا الزهد، فأداهم ذلك إلى الطعن في كثير من الأئمة".
وكم من أناس أقبلوا على الدنيا وملذاتها فشغلت قلوبهم بحبها، وعمرت أوقاتهم بجمع حطامها وهم يزعمون أنهم تحققوا بالزهد القلبي، وأنهم فهموا الزهد على حقيقته، ولو كان لهؤلاء طبيب قلبي ناصح، يكون لهم مرآة صادقة، لكشف لهم حقيقة وصفهم، ولأرشدهم إلى سبيل الوصول إلى حقيقة الزهد.
وينبغي الإشارة إلى أن المرشدين قد يصفون لبعض تلامذتهم نوعا من المجاهدات بغية تفريغ قلوبهم من التعلقات الدنيوية، من باب العلاج الضروري المؤقت، فيطلبون منهم أكل اليسير من الطعام، أو لبس البسيط من الثياب لإخراج حبها من قلوبهم، أو يدعونهم للبذل السخي والعطاء الكثير بغية اقتلاع صفة الشح والتعلق بالمال من قلوبهم، وهذه الأنواع من المعالجات ضرورية ونافعة ما دامت برأي المرشد وإشرافه، فهي ليست غاية لذاتها؛ بل هي وسيلة مشروعة للوصول إلى الزهد القلبي الحقيقي
وما أكل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للأطعمة البسيطة، وربط الحجر على بطنه الشريف من الجوع - رغم أن الجبال عرضت له أن تكون ذهبا - إلا لبيان مشروعية هذه الأعمال
. وفي هذا قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى، وهو تربّى على يد أشياخه من العارفين: "ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات، لأن التصوف هو صفة المعاملة مع الله تعالى، وأصله التعزّف عن الدنيا كما قال حارثة: (عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري)
وقد كان المرشد الكبير سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى يوجه تلامذته في بادئ سيرهم أن يجاهدوا أنفسهم ويروضوها على الاخشيشان والصبر والتقشف، ثم بعدها ينقلهم إلى مراتب الزهد القلبي حين يستوي عندهم الأخذ والعطاء والفقر والغنى، وتفرغ قلوبهم من سوى الله تعالى وقد لفت السادة الصوفية الأذهان إلى أمور تساعد على التحقق بمقام الزهد منها:
١ - العلم بأن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، والرحيل منها إلى دار البقاء، إما إلى نعيم وإما إلى عذاب، فيرى الإنسان نتيجة أعماله، إن خيرا فخير، وإن شر فشر عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ: {أَلْهاكُمُ اَلتَّكاثُرُ} قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت))
وقال أبو المواهب الشاذلي رحمه الله تعالى: "عبادة المريد مع محبته للدنيا شغل قلب وتعب جوارح، فهي وإن كثرت قليلة عند الله تعالى".
٢ - العلم بأن وراءها دارا أعظم منها قدرا، وأجل خطرا، وهي دار البقاء، قال تعالى: {قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ والْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى} ولذا وجهوا أتباعهم للإعراض عن الدنيا، والتطلع إلى الحياة الآخرة، إلى الجنة ونعيمها والرغبة في الله تعالى، فساروا سيرة الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم في التضحية والإيثار ومجاهدة النفس ومغالبة الهوى دون أن تستهويهم زخارف الحياة الزائلة
وكان شعارهم قول بعضهم:
لا تنظرنّ إلى القصور العامرة...واذكر عظامك حين تمسي ناخرة
وإذا ذكرت زخارف الدنيا فقل... لبيك إنّ العيش عيش الآخرة
٣ - العلم بأن زهد المؤمنين في الدنيا لا يمنعهم شيئا كتب لهم، وأن حرصهم عليها لا يجلب لهم ما لم يقض لهم منها، فما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم.
الخلاصة: وصفوة القول: الزهد مقام رفيع لأنه سبب لمحبة الله تعالى، ولذا دعا إليه الكتاب والسنة، وأشاد بفضله أئمة الدين، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "عليك بالزهد، فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على الناهد"
ولذلك فإن السادة الصوفية قد تحققوا بالزهد وتدرجوا في مراتبه التي أشار إليها ابن عجيبة بقوله: فزهد العامة: ترك ما فضل عن الحاجة في كل شيء وزهد الخاصة: ترك ما يشغل عن التقرب إلى الله في كل حال وزهد خاصة الخاصة ترك النظر إلى ما سوى الله في جميع الأوقات إلى أن قال: والزهد سبب السير والوصول؛ إذ لا سير للقلب إذا تعلق بشيء سوى المحبوب
وقد وصف الإمام النووي رحمه الله تعالى هذه الفئة الصالحة من الأمة فقال:
إنّ لله عبادا فطنا ... طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليس لحيّ سكنا
جعلوها لجّة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا