الثبات-إسلاميات
في رحاب قصة صاحب الجنتين في قلب سورة الكهف، حيث تتنزل الآيات كالغيث على أرض القلوب، تبرز قصة رجلين، أحدهما آتاه الله جنتين من أعناب، وحفّهما بنخل، وجعل بينهما زرعًا… مشهد من النعيم الأرضي، يفيض بالخُضرة والجمال والرزق
لكن القصة لم تكن عن الأرض، بل عن القلب عن رجل أعماه المال عن المنعم، وأغراه النعيم بنسيان النعيم الأكبر
مشهد البذخ والغفلة: دخل الجنة وهو ظالم لنفسه، يحدثها بكلمات الغرور: {ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي لأجدنّ خيرًا منها منقلبًا}
نسي أن النعيم زائل، وأن الملك الحقيقي ليس في الأرض بل في السماء
نسي أن المال لا يصنع الإيمان، وأن الجنة لا تُشترى، بل تُنال برضا الله
صوت الصديق الصالح: وصاحبه، الفقير في الدنيا، كان أغنى منه في الإيمان، فنصحه: {أكفرت بالذي خلقك من تراب؟} ذكّره بالبداية والنهاية، بالأصل الطيني والمصير الأخروي، وقال له بلغة المؤمن الواثق: {لكنا هو الله ربي، ولا أشرك بربي أحدا} لم يُغره فقره عن التوحيد، ولم يُسكته ضعف حاله عن قول الحق
اللحظة الفاصلة: فجأة... تحوّلت الجنة الخضراء إلى رماد: {وأحيط بثمره فأصبح يُقلّب كفّيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها} ضاع المال، وضاع الزهو، وبقيت الحسرة والحيرة، بعدما خسر دنياه وأخراه لقد غفل عن قول الله: {وكان الله على كل شيء مقتدرا}
عبرة لكل مغتر: قصة صاحب الجنتين ليست مجرد تاريخ، إنها مرآة لكل من ظن أن المال يصنع له الخلود، أو أن النعمة تدوم دون شكر
إنها دعوة لئلا تُفتن بزخرف الدنيا، وتغفل عن المانح جل جلاله
إنها تنبيه أن الثروة بلا تواضع… وبال، وأن الغنى بلا إيمان… خسران مبين
من كلام السلف رحمهم الله في فتنة المال:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الغنى والفقر بعد العرض على الله." فليس الغني من كثُر ماله، بل من قُدم عمله، وسَلِم قلبه
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الدنيا كلها حلم، والآخرة يقظة، والمغرور من اغترّ بالحلم." فصاحب الجنتين كان نائمًا في وهم الغنى، حتى أيقظه الخراب
وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن أقوامًا ألهتهم أموالهم عن ذكر الله، فمحا الله بركة أموالهم، وجعلها حسرة عليهم يوم القيامة."
ومضة جمعة: في يوم الجمعة، حيث تُتلى سورة الكهف، تتجدّد دعوة التوازن بين نعيم الدنيا والآخرة، بين مالٍ يزول، ونعيمٍ يُنال فلتكن لنا في صاحب الجنتين عظةً وعبرة، ولنجعل من قراءتنا للسورة وقاية من فتنة المال، وسراجًا ينير دربنا في زمن التقلّب والغرور قال تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابًا وخير أملًا}