خاص الثبات
بعد أربعة عقود من الاعتقال ظلماً في السجون الفرنسية، عاد المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله إلى وطنه، لبنان، حراً عزيزاً، محمولاً على أكتاف شعبه، لا على أكتاف الدولة التي غابت عن واجبها، وتنكرت لتاريخ رجلٍ أفنى عمره في سبيل قضايا الأمة ومقاومة الاحتلال والاستعمار.
في الخامس والعشرين من تموز 2025، وصل عبد الله إلى مطار بيروت الدولي، حيث كان الاستقبال حاراً، شعبياً بامتياز، وسط غيابٍ لافت لأي تمثيل رسمي لبناني. لم تكن هناك سجادة حمراء، ولا مراسم استقبال تليق بأسير تحوّل إلى رمز للصمود، فيما حضر نواب وقادة أحزاب ومئات المواطنين، جاؤوا ليقولوا له: "أهلاً بك حراً، فحرية الوطن لا تكتمل إلا بحرية رجاله".
جورج عبد الله، الذي أمضى 41 عاماً خلف القضبان الفرنسية، لم يُفرَج عنه بسبب تساهل من السجّان، بل انتُزعت حريته انتزاعاً بضغط شعبي وحزبي واسع، رغم اعتراضات أميركية صريحة على إطلاق سراحه. فالإدارة الأميركية لم تخف يوماً انزعاجها من عبد الله، بسبب مواقفه الثابتة في دعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وهو موقف لم يتغيّر رغم عقود الأسر والضغوط والإغراءات.
وفي أول تصريحات له بعد التحرر، من مطار بيروت، أكد المناضل اللبناني تمسكه بخيار المقاومة ودعمه الثابت للقضية الفلسطينية، قائلاً: "طالما هناك مقاومة، هناك عودة إلى الوطن". وعلى الرغم من محن السجن الطويل، ظل صوت عبد الله صلباً، حاملاً لرسالة واحدة: لا حرية لوطنٍ دون مقاومة، ولا كرامة لشعبٍ دون وحدة.
من بلدته القبيات في شمال لبنان، أطلق جورج عبد الله نداءه إلى كل اللبنانيين بمختلف أطيافهم ومذاهبهم، داعياً إياهم إلى التمسك بالوحدة الوطنية ومواجهة الأخطار المحدقة بالبلاد، وعلى رأسها "الصهيونية العالمية". وشدد على أن لبنان قادر، بفضل دماء شهدائه، على بناء جيش وطني قوي، مشيداً بشجاعة جنوده وضباطه، مشيراً إلى أن "ما ينقصهم هو السلاح"، وأضاف بثقة أن الشعب اللبناني قادر على تأمينه متى وُجد القرار.
لكن مقابل هذا الثبات النادر والالتفاف الشعبي، كان الغياب الرسمي اللبناني صادماً. لا رئيس، لا وزراء، لا تمثيل رسمي في المطار، ولا كلمة ترحيب من الدولة. والسبب؟ يخشى الرسميون غضب واشنطن، ويتوجسون من إغضاب القوى الغربية التي عارضت الإفراج عن عبد الله بشدة. وهكذا، بدا أن حسابات المصالح والارتهان للخارج قد طغت على واجب وطني وإنساني بديهي، يتمثل في استقبال مناضل أمضى نصف عمره في الأسر بسبب التزامه بقضايا وطنه وأمته.
في بلدٍ تتهاوى فيه القيم السياسية والمؤسساتية، يسطع من جديد اسم جورج عبد الله، لا كضحية ظلمٍ دولي فحسب، بل كمثالٍ نادر للثبات والصبر، ورمزٍ للكرامة الوطنية. خروجه لم يكن مجرد لحظة إنسانية، بل محطة سياسية وشعبية تؤكد أن هناك من لا يزال يرفع راية المقاومة في وجه التخلي، ومن لا تزال حريته تؤرق أعداء الأمة حتى بعد أربعة عقود من الأسر.
عاد جورج عبد الله إلى القبيات، البلدة التي وصفها بأنها "رمز للوحدة الوطنية"، ليبدأ فصلاً جديداً من النضال، هذه المرة من بين أهله ومحبيه، وفي وطنٍ لا يزال يحتاج إلى كثير من أمثاله.