الثبات-إسلاميات
حين يُقبل شهر صفر من كل عام هجري، تتجدد في بعض النفوس وساوس قديمة، وتُفتح دفاتر من الخرافات البالية، وتعلو في بعض المجتمعات نغمة الحذر والتطيّر، وكأن على هذا الشهر جناية لم تُغفر، أو نذير سوءٍ لا يخطئ، غير أن الإسلام، وقد جاء نورًا وهدايةً للعالمين، حرر الإنسان من تلك الأغلال، ونزع عنه رداء الخوف من الزمان، وأعاده إلى الأصل: أن الزمان لا يضر ولا ينفع بذاته، وإنما بقدر الله يكون كل شيء
هل شهر صفر شهر نحس؟
لقد شاع عند بعض الناس أن في شهر صفر تكثر المصائب، وتنتشر الأمراض، وتُقضى فيه الحاجات على عَجَل خوفًا من ضرٍّ محتمل وبلغ التشاؤم ببعضهم أن لا يُقدموا فيه على زواج أو سفر أو عمل مهم
فهل لذلك أصلٌ في الإسلام؟
الجواب القاطع جاء من النبيﷺ، حين قال كما في الصحيحين: ((لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر)) أي: لا عدوى ضارة إلا بإذن الله، ولا تطير، ولا تشاؤم بالبوم أو الهامة، ولا شهر يسمى صفر يُنسب إليه الشر
وقد أجمع أهل العلم – كالإمام النووي، وابن حجر، وابن عبد البر، وغيرهم – على أن الحديث ردٌّ لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن شهر صفر يحمل في طياته النحس والشرّ، كما كانوا يتشاءمون من الطير والجنّ والبوم
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على "صحيح مسلم": "ومعنى (لا صفر): أن العرب كانوا يتشاءمون به، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقيل: كانوا يجعلون في صفر تأخيرًا للقتال، فنهاهم عن ذلك، والمعنى الأول أرجح."
وذكر الإمام ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف: "التشاؤم بصفر كان من عادة الجاهلية، حتى كان بعضهم يقول: هو شهر الدواهي، فجاء الإسلام ليكسر هذا الوهم ويعيد التوازن إلى النفس المؤمنة."
من أين جاءت الخرافة؟
الخرافة ليست وليدة اللحظة، بل هي بقايا جاهلية. فقد كان العرب في الجاهلية يعتقدون أن شهر صفر "شهر شؤم" خاصة في أواخره
وبعضهم كان يفرغ بيته من الطعام أو يؤخر سفره، أو لا يُقيم فيه زواجًا
وحين جاء الإسلام، أزال هذه الظنون، وأرسى مبدأ التوحيد الخالص الذي يجعل الأمر كله بيد الله، وليس بيد زمان ولا مكان
ومع ذلك، فإن النبي ﷺ علّمنا أذكار الصباح والمساء، التي تحفظ القلب والجسد من كل شر، فلنعتصم بها في كل حين، فهي الحصن المنيع، لا التطيّر ولا الخرافة
قال الإمام الجنيد البغدادي رضي الله عنه: "العارف لا يرى في شيء من المقادير شرًا، لأنه يعرف المالك، ويشهد الرحمة في عين الجلال."
فالمؤمن الصادق لا يعلّق قلبه بشهر ولا بيوم، بل يعلقه بالله تعالى، فيفرح بقدَره إن كان فيه لطف، ويصبر على بلائه إن نزل، دون أن يربط ذلك بوقت مخصوص
التفاؤل سنة... والتشاؤم جهل
إن النبي ﷺ كان يُحب الفأل الحسن، وكان يتفاءل بالكلمة الطيبة ففي التفاؤل إيمان، وفي التشاؤم اتهام للقدر والتشاؤم بالأيام والأشهر ليس إلا بابًا من أبواب الشرك الخفي، إذ يُنسب الضر والنفع لغير الله
ومن أراد السلامة في دينه، فليكن على نهج أهل التحقيق من العلماء والعارفين، لا على طريق الموهومين والمبتدعين قال تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾
خلاصة القول: شهر صفر، كبقية شهور الله، تشرق فيه شمس الأمل، وتنبت فيه أرض القلوب إذا سقتها ثقة، وتُتلى فيه آيات الكتاب، وتُبتهل فيه الأدعية في محراب التفويض، فكيف يكون نحسًا وهو من تدبير الحكيم الرحيم؟!
فلنملأه بعمل صالح، ولننقذه من التهمة، ولنجعل من هذا الشهر فرصةً لتجديد الثقة بالله، ومحو ما علق بالأذهان من خرافةٍ ما أنزل الله بها من سلطان ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ﴾