خاص الثبات
في عالم السياسة الدولية، لا تكفي الشعارات لطمس حقائق التاريخ، ولا يمكن للقوة أن تصوغ العدالة وفق مزاج الأقوياء. وبينما تتصدر إيران عناوين الأخبار بسبب برنامجها النووي السلمي، تتوالى التحذيرات الغربية، خاصة من الولايات المتحدة، حول "الخطر النووي الإيراني"، في تكرار ممل لمشهد لم يُكتَب له نهاية منذ سنوات.
لكن المفارقة التي لا يمكن التغاضي عنها هي أن من يقود الحملة الدولية ضد إيران، ملوّحاً بإمكانية توجيه ضربات "استباقية" أو فرض المزيد من العقوبات، هو نفس الطرف الذي ارتكب أبشع استخدام للسلاح النووي في التاريخ، عندما قصفت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناكازاكي في أغسطس 1945، متسببة في مقتل مئات الآلاف من المدنيين في لحظات.
هذه السابقة الوحيدة لاستخدام القنبلة الذرية في الحروب لم تأتِ من دولة "متمردة" كما يصنّف الإعلام الغربي خصومه، بل من الدولة التي ما زالت تدّعي قيادة النظام العالمي، واحتكار تعريف مفاهيم "السلام" و"الأمن الدولي".
ازدواجية المعايير
تثير المواقف الأميركية والغربية بشأن إيران علامات استفهام كثيرة، ليس بسبب القلق على الأمن العالمي كما يُروّج، بل بسبب التناقض الصارخ بين الأقوال والأفعال. فالدول التي تملك اليوم آلاف الرؤوس النووية، وتحتفظ بها خارج أي رقابة حقيقية، تتصدر قائمة من يطالبون إيران بـ"الشفافية النووية"!
واللافت أن الولايات المتحدة ليست وحدها في هذا المشهد. فإلى جانبها تقف دول مجموعة 4+1، وكلها قوى نووية أو حليفة لقوى نووية، تمارس ما يمكن وصفه بـ"احتكار القوة النووية"، وتمنع غيرها من امتلاك التكنولوجيا ذاتها حتى لو كانت سلمية، تحت ذرائع أمنية وسياسية متغيرة حسب المصلحة.
إيران والموقف العقائدي
على الجانب الآخر، تكرر إيران موقفها الرافض لإنتاج أو امتلاك سلاح نووي، مستندة إلى فتوى دينية واضحة تحرّم صناعة القنبلة الذرية، وترتكز إلى مبادئ إسلامية تجرّم استخدام أسلحة الدمار الشامل. وعلى الرغم من الضغوط والعقوبات، لم تثبت أي جهة دولية حتى الآن أن إيران خرقت التزاماتها بشكل قاطع.
لكنّ المشكلة لا تكمن في "الخطر النووي الإيراني"، بل في أن إيران، بمواقفها المستقلة وسياساتها المناهضة للهيمنة الغربية، تمثل تهديداً سياسياً أكثر منه عسكرياً للمنظومة الدولية التي يقودها الغرب. ومن هنا، تُستخدم الورقة النووية كذريعة لإبقائها تحت الضغط والعزل، ومحاولة احتوائها عبر أدوات الترهيب، سواء الاقتصادية أو العسكرية.
التهديد "الإسرائيلي" ومسرح التصعيد
في خلفية هذا التصعيد، يظهر الدور الإسرائيلي، حيث لا تتوقف حكومة بنيامين نتنياهو عن التحريض ضد إيران، مطالبة بضرب منشآتها النووية، متجاهلة أن إسرائيل نفسها تملك ترسانة نووية غير معلن عنها رسمياً، لكنها معروفة للدوائر الدولية، دون أن تُخضع لأي مساءلة.
التهديد الإسرائيلي المستمر، وإن لم يترجم حتى الآن إلى فعل مباشر، يبقى جزءاً من مشهد إقليمي متوتر، وقد يتحول في لحظة ما إلى شرارة تصعيد لا يمكن احتواؤها. لكن الواقع أن لا إيران تريد الحرب، ولا واشنطن تملك ترف خوض مغامرة عسكرية في الشرق الأوسط، خاصة في ظل التحديات الداخلية الأميركية، من انقسامات سياسية إلى اضطرابات اجتماعية.
الكلمة للميدان... لا للمنابر
قد يكون الهدف من التصعيد الإعلامي والدبلوماسي هو محاولة كسر الإرادة الإيرانية على طاولة المفاوضات. لكن التاريخ أثبت أن طهران لا تخضع للابتزاز تحت الضغط، بل تزداد صلابة كلما اشتدت الحملة ضدها.
فالواقع يقول: من لم يحصل على تنازل إيراني حين كانت تحت أقسى أنواع الحصار، لن ينال شيئاً في وقت باتت فيه إيران أكثر خبرة ونفوذاً وثقة بالنفس.
وبالتالي، فإن تهديد من استخدم القنبلة النووية بالفعل لن يمنح شرعية لخطاب "منع الانتشار النووي" إذا ظل مشبعاً بالنفاق السياسي والتاريخي. ولن يُكتب لأي سلام أن يصمد، ما دام قائماً على أساس الخوف لا العدالة، وعلى معايير مزدوجة لا قانون دولي.