خاص الثبات
ما شهدته ضاحية بيروت الجنوبية وما ترمز له ليلة عيد الاضحة الخميس الخامس من حزيران لم يكن مجرد عمل عسكري تقليدي، بل بدا أشبه برسالة سياسية أرادت تل أبيب إيصالها بوضوح، سواء للداخل اللبناني أو للجهات الإقليمية والدولية. العدوان الذي نفذته آلة القتل الصهيونية جاء في وقت لم تكن فيه أي مؤشرات ميدانية على وجود خطر عسكري فعلي، خصوصاً بعد أن أكد الجيش اللبناني أن الأبنية التي تم قصفها لا تحتوي على أي معدات عسكرية أو مخازن سلاح. ورغم تواصل الجيش اللبناني مع الجهات الدولية المعنية بالتحقق، أصرّ الجانب الإسرائيلي على تنفيذ الضربة، ما يؤكد أن الاعتداء كان خارج أي إطار دفاعي أو أمني.
التوقيت نفسه لا يبدو عبثياً، فهذه ليست المرة الأولى التي يختار فيها العدو لحظة رمزية، كعيد أو مناسبة وطنية أو دينية لبنانية، لتنفذ فيها عدوانه. ثمة نمط واضح يُفهم منه أن الهدف أبعد من الرد على تهديد مفترض، بل يندرج ضمن سياسة مدروسة تسعى إلى ضرب الاستقرار في لبنان، ومنع أي فرصة جدية للنهوض أو الانتظام السياسي. تصريحات بعض المسؤولين الصهاينة، مثل ما قاله وزير الخارجية إسرائيل كاتس بأن "لا هدوء في بيروت ولا نظام ولا استقرار في لبنان"، لا تترك مجالاً للشك في النوايا الحقيقية الكامنة خلف هذه الاعتداءات.
هذه الاعتداءات تأتي أيضاً في وقت دقيق إقليمياً، حيث تشهد المنطقة نوعاً من الحراك السياسي الهادئ نحو التهدئة. الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بدأت بإبعاد بعض الأصوات المتشددة من مواقع القرار، كما تواصل – وإن بشكل بطيء – مسار التفاوض مع إيران. هذا الاتجاه نحو خفض التوتر، وإن كان هشاً، يثير قلق إسرائيل التي ترى في الهدوء الإقليمي تهديداً لأجندتها الأمنية والسياسية. فإسرائيل بطبيعتها لا تفضّل البيئة الهادئة، خصوصاً إذا لم تكن جزءاً فاعلاً في صياغة توازناتها، وهي تسعى دوماً إلى إبقاء المنطقة في حالة توتر يسمح لها بالضغط والمساومة.
ورغم أن واشنطن تبدي رغبة واضحة في احتواء التوترات، إلا أنها في المقابل لا تمانع الاستفادة من التصعيد الإسرائيلي. فكلما تعرّضت القوى المناهضة للمحور الأميركي للضغط، سواء في لبنان أو غيره.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل السياق الداخلي الإسرائيلي. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يعيش منذ فترة طويلة حالة من الانكشاف السياسي والقضائي، ووجد في التصعيد الخارجي وسيلة فعالة للهروب من أزماته الداخلية. لطالما كان يلجأ إلى إشعال الجبهات، سواء في غزة أو في الجنوب اللبناني، كلما ضاق عليه الخناق داخلياً. وما جرى أمس من إعلان حاخامات التيار الديني المتشدد دعمهم لحلّ الكنيست، يعكس إلى حد بعيد طبيعة العلاقة المعقدة بين نتنياهو واليمين المتطرف في إسرائيل، حيث تقوم على التهديد المتبادل والتواطؤ السياسي. فالطرفان يستخدمان بعضهما البعض لتحقيق مكاسب ظرفية، حتى وإن كان ذلك على حساب الاستقرار الإقليمي أو حياة المدنيين.
رغم القصف والموت في ليلة العيد، بقيت الضاحية واقفة كعهدها، أهلها لا يعرفون الانكسار، بل يولد من تحت الركام صبرٌ أشد، وعزمٌ لا ينثني.