زياد الرحباني.. مِن "سألوني الناس" إلى ثورة لا تسأل أحداً ــ أمين أبوراشد

الثلاثاء 29 تموز , 2025 12:33 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

وُلِد زياد في زمن العمالقة و"الأيقونات المقدَّسة"، لكنه رفض أن يتملق على أكتاف أحد، كأيقونة جامدة معلَّقة على الجدران الباردة، وأنزلَ إرث الرحابنة إلى الشارع حيث النبض الجماهيري يحتاج إلى مجنون حقّ وعدالة، واقتحم حرمة الأبراج العاجية للتقليديين، و"فتح على حسابه" منذ "أخطأ" عاصي وأوكل إليه قسرياً من المستشفى عام 1973ٓ تلحين "سألوني الناس" للسيدة فيروز، وقرر زياد منذ ذلك الحين أن يسكن "وجع الناس"، لأنه وجد رسالته الفكرية والموسيقية والمسرحية في نبضات القلوب المعذَّبة التي قرر الانتماء إليها، وبات الأيقونة اللاطائفية التي رفعتها كل طوائف لبنان، وجمع في حياته ومماته ما عجزت عنه بورجوازية أيقونات السياسة وأصنام الجماد، التي لم يستأذنها زياد ولا سأل عنها.

ونحن لسنا بصدد تشريح التاريخ الفني لزياد الرحباني، بل في تدرُّجه السريع عبر مسرحياته نحو "الانحراف اليساري" منذ العام 1975، وخارج "الأقفاص الحزبية"، لأن زياد ليس بحاجة إلى إملاءات أو توجيهات من رأس هرم حزبي، سيما وأن فكره كان قد بدأ إنتاج الرفض للواقع المُخزي، وتحديداً مع بداية الحرب الأهلية وانشطار بيروت إلى شرقية وغربية، فاختار هو ابن أنطلياس أن ينتقل إلى "الغربية"، لأسباب ترتبط بفكره السياسي، وشكل حالة وطنية اعتراضية على ما يحصل من مواجهات على مقلبيّ المتحف الوطني. 

في العام 75 كان زياد في التاسعة عشرة من عمره، ما يعني أن أبناء جيله كانوا على المتاريس ومسارح التذابح الوطني، فاختار هو الشعب البسيط متراس قناعاته، وجعل من مسرحه منبراً لصرخات الناس بوجه الحرب والقتل والتدمير والتهجير والتشبيح والسرقة، وصقل هذه الصرخات كتابةً وموسيقى وسيناريو وحواراً كوميدياً ساخراً ساحراً، إلى حدود بلوغه مرتبة "المعلِّم" التي اعترف له بها الموسيقار الراحل ملحم بركات.

ولم يقصد زياد الدخول في دهاليز السياسة اللبنانية، ولم يرضَ مسايرة السياسيين، لكنه كما أحسن توصيفه وزير الثقافة غسان سلامة في يوم وداعه، أنه "ناقد سوسيولوجي من الطراز الأول"، بما يعني أن زياد لم يلبس الكفوف لتبييض الطناجر مع أمراء الحرب، بل حاربهم فكرياً وفنياً واجتماعياً واستطاع تعريتهم بلسانه السليط الأقوى من كل أدوات الحرب الداخلية الغبيَّة.  

ولأنه واكب الحرب الأهلية اللبنانية منذ عام 1975، رفض أن يقدّم للجمهور عوالم خيالية بعيدة عن الواقع كما درجت عليه مسرحيات الجيل السابق، بل صمم على أن يعكس بفنِّه الهموم الاجتماعية اليومية وسط الفوضى والعنف، فكانت له سلسلة أعماله التي مزجت بين الكوميديا اللاسعة والنقد السياسي الجريء، وجعل من مسرحه مرايا واقعية للمجتمع اللبناني المنقسم والمجروح، وكانت البداية مع "نزل السرور" (1974)، الى "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، الى "فيلم أميركي طويل" (1980)، الى "شي فاشل" (1983)، الى "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)، و "لولا فسحة الأمل" (1994)، مع تقديم ألبومات موسيقية وغنائية لا يتسع المجال لتعدادها، إضافة إلى إطلالات إعلامية دخل فيها بيوت اللبنانيين وقلوبهم والضمائر.

ونهج زياد غدا مدرسة شكّلت قطيعة مع المسرح الغنائي التقليدي، وأسست لمسرح سياسي نقدي يعبّر عن نبض الشارع وتناقضاته، ويتناول هواجس جيلٍ ضائع، عبر أعمالٍ اتخذت بعداُ سياسياً واقعياً يتناول الهوية والانقسامات والفساد، والتركيز على الحرية والدعوة الى المقاومة بجرأة غير معهودة.

وانحياز زياد الرحباني إلى الفقراء والمظلومين شكَّل
قاعدة لانطلاق مواقفه المعلنة، إن لجهة دعم القضايا العادلة وفي مقدمتها قضية فلسطين، أم وقوفه النضالي مع المقاومة في لبنان، ودفع زياد من استقرار حياته ثمن مواقفه العظيمة، ولعل مشهدية انتقال نعشه من "الغربية" إلى "الشرقية"، كانت الأكثر بلاغة في تاريخ شخصية استثنائية وطنية، وبدا النعش المهيب أكبر من معظم أهل السياسة في لبنان، وتراءى لنا زياد يسألهم من عليائه: "بالنسبة لبكرا شو"؟


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل