خاص الثبات
في زمنٍ اختلطت فيه المواقف وتكسّرت فيه الموازين، يخرج من قلب أميركا صوت مختلف، لا يشبه النفاق السياسي، ولا يعرف للمصالح موطناً. صوت شاب أميركي من جذور لاتينية، اسمه إلياس رودريغيز، قرر أن يقول كلمة حقٍّ في وجه قوةٍ لا ترحم، فدفع الثمن من حريته، وعلّق قلبه بفلسطين.
في لحظة اعتقاله قرب المتحف اليهودي بواشنطن، كان يمكن لأي شخص أن ينهار، أن يصمت أو يساير، لكن رودريغيز، مكبّل اليدين، رفع صوته عالياً: "الحرية لفلسطين".
لم يكن يهتف لمصلحة شخصية، ولا بحثًا عن شهرة زائفة، بل كان يُعبّر عن غضبٍ إنساني خالص، عن جرحٍ لم يعد يحتمله، عن مأساة غزة التي سقط فيها آلاف الأبرياء تحت صمت دولي وعربي مخزٍ.
هذا الشاب، الذي لم يولد في مخيم فلسطيني، ولا عاش تحت الحصار، أدرك من موقعه في شيكاغو أن ما يجري في غزة ليس "نزاعاً"، بل مجزرة، إبادة جماعية تمارسها آلة الاحتلال بلا رحمة، أمام عالم يتقن فن الإنكار والتواطؤ.
نشأ رودريغيز في بيئة نضالية، وارتبط اسمه بحركات العدالة الاجتماعية في أميركا مثل "حياة السود مهمة" وحزب الاشتراكية والتحرير. لم يكن جديدًا على الشوارع ولا على الهتاف، لكنه عندما صرخ "الحرية لفلسطين"، كان كمن ينزع قناع الحضارة الزائف عن وجه العالم الغربي، ويضع إصبعه على الجرح.
تاريخ إلياس لا يُكتب بحبر الصحف، بل بدمعة أمٍّ فلسطينية تنتظر ابنها، وابتسامة طفلٍ لم يعد له بيت. ما فعله هذا الباحث في التاريخ الشفوي، هو أنه صنع تاريخًا بلسانه ووقفته. لم ينتظر بيانات من جامعة الدول العربية، ولا تصريحات جوفاء من منابر السياسة. صنع موقفًا يردّ الروح في زمن الخذلان، وأثبت أن صوت الإنسان يمكن أن يعلو فوق جدران التطبيع والصمت.
أحَبّ الله يد إلياس رودريغيز لأنها امتدت في زمن انسحبت فيه أيادي كثيرة. لأنها اختارت الوقوف مع المظلوم لا الصامت، مع الحق لا الخوف. ولأنه قال كلمة الحق، حتى وإن كلّفته حريته.
في خضم الجبن السياسي والانبطاح الإعلامي، يبقى أمثال إلياس شعلة في طريق الإنسانية. ومن واجبنا، لا شكره فقط، بل أن نتعلّم منه معنى الكرامة.
ففلسطين لا تبحث عن الخطابات، بل عن أحرار.. مثل إلياس رودريغيز.
يد رودريغيز يحبها الله.. ويد علوج الخليج يبغضها الله.