أقفِلوا دولة الأوهام _ عدنان الساحلي

الجمعة 16 أيار , 2025 03:22 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

 يصدق السذج كلام المهرجين بأن لبنان قطعة سما، فقطعة السما يحرسها الخالق العظيم ولا يعيث بها المغامرون واللصوص فساداً.. أما لبنان الوطن والدولة، فاسألوا أصحاب الحاجات من اللبنانيين عندما تصيبهم ضائقة أو امتحان إلهي، كيف يبحثون عن الدولة ومؤسساتها، فلا يجدون منها غير الأوهام، فيما الحكام يبيعون الناس الخطابات الفارغة ويضللونهم بأنهم يسعون لإقامة حكم القانون، وجعل البلد مثل الدول المعتبرة.
      لو كان لبنان الدولة، يشبه جمال أرضه ومياهه وسمائه، قبل أن يلوثها النافذون، لما كان سيل الهجرة منه لا ينقطع منذ اكثر من مئة وخمسين عاماً.
  الدولة هي سلطة ومؤسسات قبل كل شيء، وهي سياسة واقتصاد وأمن وتعليم وطبابة ومال، ومن يبحث عن المؤسسات في لبنان لن يجد فيها ما يسر القلب، ولا ما يلبي احتياجات الناس، خصوصاً تلك المطلوب من الدولة أن تؤمنها لشعبها كشرط أولي لشرعية سلطات تلك الدولة ولوجودها خدمة لشعبها؛ وليس لتأدية وظائف وأدوار هي في الواقع خدمة لدول وقوى خارجية، كان لها وما يزال دور في إقامة هذه الدولة المزعومة، التي تثبت الأيام والأحداث أنها غير موجودة إلا في أوهام المنتفعين والسذج من المواطنين.
    أول مظاهر الدولة الغائبة في لبنان، أن اللبناني متروك فريسة للتجار واللصوص في كل ما يحتاج إليه في حياته ويومياته، فالكهرباء موكلة لمافيا أصحاب المولدات، الذين ينكلون بالناس ويبتزونها لقاء إنارة بيوتهم، لأن كهرباء الدولة تقوم بزيارات خجولة لبيوت المواطنين، أما المياه التي يدفع اللبناني فواتير متنوعة، للحصول عليها من الشركات الخاصة، بين ماء للشرب وماء للإستعمال، تكون "حنفية" مياه الدولة آخر مصدر يلبي حاجة الإنسان، في هذا البلد المنكوب بحكامه الفعليين وهم التجار والفجار وكل من يصنف على وزن هذه العبارات من المافيات المتنوعة.
        أما الطبابة فحدث ولا حرج، فالاستشفاء مثله مثل التعليم، هو "كوتا" تتوزعها الطوائف في لبنان، ولكل طائفة مدارسها ومستشفياتها الخاصة؛ لا فرق بين علماني أو متدين، والكل مستثمر يسسعى للربح، حتى المستشفيات والمدارس التي تدعي أنها قائمة لعمل الخير، بات العاملون فيها، خصوصاً في مكاتب الدخول ومكاتب المحاسبة، لا يتورعون عن القول إنهم ليسوا جمعية خيرية.
    التعليم الخاص في لبنان كان سابقاً ملاذ الفاشلين، فيما كان التعليم الرسمي هو الأنجح والأجدى، لكن مافيا تحالف المؤسسات التعليمية العائدة للطوائف، تمكنت من تخريب التعليم الرسمي، لتخلوا لها الساحة في فرض الأقساط التي تناسبها، وفي استحواذ كل مؤسسة على أبناء قطيعها الطائفي، ولا فرق هنا في التعليم الخاص، بين طائفي وعلماني، فكلهم تجار ومستثمرون يثرون ويبنون امبراطوريات من المؤسسات، عن طريق "نشر العلم والمعرفة" أو "علاج الفقير" و"نجدة الملهوف"!
     والأخطر أن العقلية ذاتها تسيطر على قطاع الصحة، حيث هشّم الحاكمون وكل من تسلم وزارة الصحة العامة، طوال العقود الماضية، القطاع الصحي الرسمي، وبات المواطن يتسول الاستشفاء والطبابة على أبوباب المستشفيات الخاصة، التي تبتز المواطن وتفعل كل ما يمكن فعله لتحصيل أكبر مبلغ مالي من المريض ومن ذويه، بغض النظر عن حالته الاجتماعية، حتى تحول المواطن الفقير والمتوسط الحال إلى باحث عن المساعدات؛ يهيم على وجهه سعياً وراء من يمد له يد العون، طلباُ لعلاج مريضه ولإنقاذه من الموت، خصوصاً أن إدارات المستشفيات تعلم حاجة المريض وذويه، فتستبق الأمور ولا ترضى بإدخاله قبل دفع تأمين مالي مسبق، يغطي كلفة العلاج، إن لم يكن يفوقها.
         والمستفيات الخاصة، بما فيهاً بعض تلك التي تتسمى بأسماء "دينية"، تستغل ضعف إمكانات المستشفيات الحكومية، لتتحكم بالمريض الذي يلجأ اليها، ومن يستغرب ذلك ليقصد أكبر مستشفى حكومي في بيروت ليرى الكآبة تلفه من الخارج والداخل، وكيف ان أحاديث الفقر وغياب التمويل ونقص مواد العلاج وأدواته تطغى على أجوائها، حتى أن بعض الأطباء العاملين فيها يبعدون مرضاهم عنها، فهم من جهة يرون أن نقص تمويلها يحط من مستوى العلاج فيها، كما أنهم من ناحية ثانية يستغلون مرضاهم بعلاجهم في مستشفى خاص يعملون فيه ليحصلوا أموالاً طائلة.
     مشكلة اللبنانيين أنهم مأخوذون عنوة للحديث في القضايا الكبيرة، وقد استحوذت تبعية وهوان السياسيين، أمام هيمنة قوى النفوذ والمال الخارجي، على تفكيرهم، كيف لا وقد تولى الخارج تعيين رئيس جمهورية عليهم وكذلك عين لهم رئيس حكومة واختار الوزراء؛ ولم يعد أمام سفارات اللجنة الخماسية المؤلفة من: أميركا وفرنسا وقطر والسعودية ومصر، غير اختيار نواطير الأبنية وتعيين شرطة السير، مادامت قوى الأمن بالكاد تتولى حراسة مخافرها وثكناتها، بعدما أوكل القيمون على البلاد مهام قوى الأمن الداخلي للجيش، الذي لا قدرة ولا إمكانات لديه ليقوم بمهمته الأساسية وهي أمن الحدود، حيث يسرح جيش العدو "الإسرائيلي" في البر والبحر والجو، من دون منازع، بل ومن دون أن يقدم أرباب الحكومة شكوى أمام مجلس الأمن الدولي، لأن ذلك يحرج الأوصياء الخارجيين.
    وأياً يكن الحديث، لا يمكن أن ننسى أن أموال اللبنانيين المودعة في المصارف، التي ديّنتها الأخيرة للدولة لقاء فوائد خيالية، فراكم أصحاب المصارف ثرواتهم وضاعفوها؛ وعندما حانت ساعة حصار البلد مالياً، بأمر أميركي قضى بتجفيف لبنان من العملات الصعبة، لإجبار شعبه على الانسياق خلف أنظمة التطبيع العربية، أو بالأحرى "الحضن العربي المتصهين" الخاضع للأوامر اميركية والغربية، طارت تلك الأموال على أجنحة تهريبها إلى الخارج، وفي ذلك أكبر ادانة للدولة بكل رجالاتها ومؤسساتها، التي تبيع المواطن كلاما فارغاً عندما يسألها أين اموالي ولماذا لا يحاكم الذين هربوا الأموال إلى الخارج، فتعود للمواطن أمواله ويخرج من دائرة الإفقار والإبتزاز، لأن كل الفاعلين في لبنان يعملون وفق شعار "جوع كلبك بيلحقك".  
    والخلاصة، أن الحكم في أي دولة هو أمن وسياسة واقتصاد وخدمات.. وهذه العناصر كلها غير موجودة في دولتنا الوهمية.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل