لبنان بين سلاحين: وهم السيادة وحقيقة الردع

الأربعاء 30 نيسان , 2025 12:48 توقيت بيروت أقلام الثبات

خاص الثبات

في مشهد لبناني يتكرر بمرارة، تطفو على السطح من جديد دعوات «نزع السلاح» كأنها المفتاح السحري لكل أزمات البلاد، فيما يتغافل أصحاب هذه الدعوات عن السياق التاريخي والجغرافي والسياسي الذي يجعل من هذه الشعارات أكثر ضرراً من نفع، وأكثر خدمة للعدو من أي عمل عسكري مباشر.

منذ عقود، يعيش لبنان على إيقاع أزمة بنيوية مزمنة، حيث اختلطت السلطة بالميليشيا، والدين بالفساد، والسيادة بالمصالح الأجنبية. وليس خفياً أن أول من رفع لواء السلاح في الداخل لم يكن المقا.ومة، بل تلك القوى التي تلبست عباءة "الشرعية" لتغطي على حروب مصالح وأجندات إقليمية، وتسببت بحرب أهلية طحنت الأخضر واليابس. هؤلاء الذين يرفعون اليوم راية "نزع السلاح" باسم الدولة، كانوا يوماً أول من تاجر بأشلاء الدولة.

لكن حين خرج فريق لبناني من تحت الركام، متسلحاً بعقيدة مقا.ومة الاحتلال الإسرائيلي ومتبنياً خيار الكفاح المسلح خارج الصراعات الداخلية، بدأت الحملات تنهال عليه. مقا.ومة حققت ما عجزت عنه الجيوش النظامية، وحررت الأرض بجهود أبنائها، وقدّمت قادتها شهداء في الخطوط الأمامية لا في الغرف المكيفة.

رغم هذه التضحيات، يتجرأ بعض اللبنانيين على التشكيك في شرعية هذا السلاح، ويتعامون عن الاحتلال المستمر لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ويتناسون أن هناك شعباً في الجنوب ما زال يعيش في مرمى النيران الإسرائيلية، وأن كل محاولات الجيش الصهيوني لاختراق الردع قد باءت بالفشل بفضل هذا السلاح تحديداً.

اللافت أن الأصوات المطالبة بتجريد المقا.ومة من سلاحها لا تطرح أي بديل واقعي. هل ستتولى الدولة بجيشها المحروم من أدنى مقومات الدفاع، مهمة التصدي لأي عدوان محتمل؟ وهل تكفي سيارات الجيب المهترئة ومدافع العهد القديم لتأمين الحدود وردع آلة عسكرية إسرائيلية مدججة بدعم أميركي وأوروبي غير محدود؟ أم أن المطلوب ببساطة هو تسليم لبنان على طبق من فراغ للقوى الخارجية؟

ما الذي يراهن عليه هؤلاء؟ على حسن نوايا العدو؟ على تسويات دولية لا مكان للبنان فيها إلا كضحية؟ أم على توازنات إقليمية متحركة لا ترحم الدول الضعيفة؟

إن الدعوة إلى نزع سلاح المقا.ومة دون أي استراتيجية أمنية متكاملة، أو رؤية دفاعية واقعية، ليست سوى محاولة لإضعاف لبنان في لحظة مفصلية من تاريخه. بل هي، فعلياً، استجابة غير مباشرة لمطالب العدو الذي عجز عن فرض إرادته بالنار، فلجأ إلى التهويل الإعلامي والتفكيك الداخلي.

إن المشكلة ليست في وجود السلاح بحد ذاته، بل في الأسباب التي دفعت إلى حمله: الاحتلال، العدوان، غياب الثقة الدولية، وتقصير الدولة. من أراد نزعه، فليبدأ من جذور المشكلة، لا من تجلياتها. فليطالب بانسحاب الاحتلال، وليعمل على تسليح الجيش فعلياً، لا خطابياً، وليبذل جهده لبناء دولة عادلة وقوية بدلاً من تقويض ما تبقى من صمامات أمانها.

أما تحويل المقا.ومة إلى خصم داخلي، فهو وصفة لخراب جديد. فلبنان لا يحتاج إلى انقسام إضافي، بل إلى اعتراف واقعي بأن قوة المقا.ومة ليست عبئاً على الوطن، بل ضمانة له، طالما ظلت ملتزمة بثوابتها، ومحصنة من الانجرار إلى الفتنة.

في النهاية، لا بد من التذكير أن سيادة الدول لا تُستعاد بالتمنيات، ولا تُبنى بالشعارات، بل تُفرض بالفعل، وبالقوة حين تقتضي الضرورة. وفي لبنان، الضرورة لم تنتفِ بعد.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل