خاص الثبات
كان صباح يوم أحد، حيث الشوارع عادة ما تكون هادئة في هذا الوقت من النهار، فمعظم السكان إما نائمون حتى وقت متأخر، أو في قراهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بحثاً عن السكينة وهرباً من صخب المدينة. ولهذا، كان من السهل سماع الحديث الذي دار في الشارع بين سيدتين: الحاجة أم صابر، وهي سيدة في أوائل عقدها السابع، وجارتها.
الحاجة أم صابر لم تُكمل تعليمها الابتدائي. بالكاد تستطيع القراءة والكتابة، ولا تطالع الصحف، ولا تملك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي. عجنتها الحياة، وخطّت السنون على وجهها آثارها. كانت تثبّت حجابها الأزرق على رأسها وهي تتابع حديثها قائلة:
"نحن ثابتون على خطنا، فهذا خط آبائنا وأجدادنا، وأولادنا من بعدنا. هذه أرضنا، وُلدنا فيها، وعشنا وتربّينا، وأكلنا من خيراتها. ومهما حدث، لن نتركها، ولو اضطررنا للمبيت في العراء. فلا حياة ولا كرامة لمن يستغني عن أرضه. هذا ما لا يفهمونه: كيف أن هذا الشعب، بعد كل التضحيات والخسائر والدمار والشهداء، يبقى هنا، ويموت هنا، ويُدفن هنا، ويأتي أولاده من بعده، وأولاد أولاده من بعدهم. نحن لم نأتِ إلى هنا من مكان آخر بموجب ‘كونترا’، يعني تعالوا وخذوا أرضاً وبيتاً وعملاً وأمناً وجنسية... ثم تهربوا عند أول مشكلة. نحن أبناء الأرض".
سكتت قليلاً لتستجمع أفكارها، ثم بادرت جارتها بالكلام مجدداً قبل أن تنطق الأخيرة بكلمة:
"يا عمي، نحن لا نحب الحرب ولا نحب أن نموت، بل نخاف منها. نعرف أن عدونا قوي، جبار، غادر، وقادر على القتل والدمار، لكننا نملك عزيمتنا وإرادتنا. ولهذا سنبقى نقول ‘لا’. هؤلاء جاءوا من جميع أنحاء الكرة الأرضية إلى هذه الأرض، ويريدون أخذها بالقوة. لنفترض أننا أعطيناهم ما يريدون، أتظنين أنهم سيرتدّون وينكفئون؟ أنتِ واهمة إذا اعتقدتِ ذلك! سيطلبون المزيد، والمزيد، والمزيد، حتى ينهبوا كل شيء. إذا لم تقولي ‘لا’، فسيأتي أعداد أكثر منهم، وسيواصلون التوسع، وسيقولون: لماذا لا نأخذ المزيد طالما أننا نستطيع؟ لذلك، إذا لم يُوقَفوا عند حدهم، فالله وحده يعلم ما سيفعلونه".
ثم تابعت الحاجة أم صابر:
"يقولون إن التطبيع سيجلب السلام والرخاء! حسناً، انظري إلى السودان كمثال: ماذا يحدث الآن؟ انظري إلى الأردن، كم من الأزمات يعيشها؟ لا أعرف الكثير في السياسة، لكنني أسمع في التلفاز عن الضائقة الاقتصادية هناك، والأزمات التي تظهر من حين لآخر، والأوضاع غير المستقرة. الأردن عقد اتفاقية سلام، لكن الأمور لم تهدأ. ومصر كذلك، أليست لديهم معاهدة سلام؟ لكن انظري إلى الأزمة الاقتصادية، سمعتُ أن هناك ناساً يعيشون في المقابر! والعملة متدهورة، والشعب يعاني. ألم يقولوا إن التطبيع هو الحل؟"
"وانظري إلى سوريا، قالوا إن مشكلتها في النظام، وسقط النظام. فماذا فعلوا؟ دخلوا واحتلوا مناطق جديدة، وهاجموا الناس، وانتهكوا حرمة البيوت، ودمروا ما تبقى من أسلحة الجيش. الأنكى من ذلك، أن النظام الجديد يقول إن مشكلته ليست معهم، لكنهم لم يتوقفوا. ما زالوا ينهشون من الأراضي السورية، وسمعت من ابني أنهم أصبحوا على مسافة قريبة من دمشق! الجماعة في سوريا يقولون: لا نريد حرباً، ومع ذلك لم يتوقفوا عن إشعال الفتن والانقسام بين السوريين. حتى المناطق العازلة التي كانت قائمة منذ السبعينات دخلوها! هل يجوز هذا؟ تخيلي ماذا سيفعلون لو دخلوا علينا نحن؟"
"على فكرة، لا تقولي لي إن الأمم المتحدة والقرارات الدولية ستحمينا. هل تتذكرين القرار 425؟ وغيرُه من القرارات؟ هل نُفّذ منها شيء؟ هل أصغى أحد إلى الأصوات الدبلوماسية المطالبة بتنفيذها؟ أبداً! لقد أُخرجوا بالقوة. والآن، كم مرة خرقوا القرار 1701؟ أسمع كل يوم عن خرق جديد، ولا أحد يردعهم. أتظنين أنهم يعيرون أي اهتمام للقرارات الدولية والدبلوماسية؟ أصلاً، ثلاثة أرباع العالم معهم، فلماذا يرتدعون؟" (تضحك).
ثم تختتم الحاجة ذات الحجاب الأزرق حديثها:
"والله يا أختي، نحن لا نخاف إلا من رب العالمين، ولا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. لو قدّر لنا أن نعيش، فسنعيش على أرضنا وفي بيوتنا، ولو دمروها مئة مرة، سنعيد بناءها مئة مرة. ولو قدّر لنا أن نموت، فلن نموت إلا في أرضنا، وندفن فيها. وسنبقى ندافع عنها مهما حدث. ستبقى هذه الأرض ولادة للمقاومين الأبطال، كما كان هناك من ماتوا من أجلها، سيبقى هناك من يدافعون عنها، وسيأتي في المستقبل من يكمل المسيرة. ستختلف الأسماء والاتجاهات والمذاهب والأحزاب، لكن الخط واحد. ومثلما قلت لك: هم لن يفهموا هذا أبداً، لأنهم لا يملكون أي حق في هذه الأرض، ونحن لن نتخلى عن شبر منها".
أنهت الحاجة حديثها مع جارتها، ثم توجهت إلى بائع الخضار المجاور لتشتري حاجتها من البقالة. وفي نفس اللحظة، ظهر أحد السياسيين على شاشة التلفزيون، بياقته البيضاء وشهاداته العالية، يقول بكل ثقة:
"سنحرر الأرض بالضمير والإنسانية والقرارات الدبلوماسية".
حسام أحمد زين الدين