أقلام الثبات
ليس الخلاف في لبنان على حصر السلاح بيد الدولة، ولكن مَن يستمع إلى خطاب خصوم المقاومة، يرى المشهد وكأن "إسرائيل" قد انسحبت من كامل الأراضي اللبنانية، وأن لا سلاح في مخيمات اللاجئين والنازحين، ولا مع الأحزاب والميليشيات، وأن سلاح المقاومة قد انتهى دوره وانتفى مبرر وجوده، وأنه بكل بساطة يُمكن نقله عبر "بيك آب"، وتخزينه في مستودع بمساحة مئة متر مربع!
نحن لا نُكابر في مسألة تقييم نتائج العدوان "الإسرائيلي" على لبنان، ولا ننكر الخلل في ميزان القوى مع العدو، لكن السجال الدائر حول سلاح المقاومة، بدا وكأن هذا السلاح هو المسؤول عن احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقرى السبع، المحتلة من العدو "الإسرائيلي" منذ ما قبل نشوء المقاومة، والنقاط الخمس التي احتلها "الإسرائيلي" مؤخراً هي للتغطية على ما تمّ احتلاله سابقاً بين عامي 1967 و1978، وسط جدل بيزنطي لبناني حول السبب في كينونة هذا السلاح بصرف النظر عن المُسبب، وبات تطبيق القرار 1701 النقطة التي تلي نزع سلاح المقاومة.
مشكلة خصوم المقاومة في لبنان أنهم يحملون ممحاة للذاكرة، وممحاةً للضمائر، وكل هذه الفورة على سلاح المقاومة هي نتيجة اعتقادهم أن لبنان خرج خاسراً بالضربة القاضية من هذه الحرب، وأن "إسرائيل" حققت نصراً حاسماً ونهائياً، ربما لأنهم لا يرغبون قراءة ما يحصل من تمزق في الداخل السياسي "الإسرائيلي"، والتمرد داخل "جيش الدفاع" وهروب جنود الاحتياط، ولا يجيد هؤلاء الخصوم قراءة استحالة قيام الدولة اليهودية التي هي حلم العدو منذ العام 1948، ولمن يقرأ "معاريف" و"يديعوت أحرونوت" يدرك حجم "النصر الإسرائيلي" بنظر "الإسرائيليين" أنفسهم، وحجم الدمار الاقتصادي والاجتماعي، والضمور الديمغرافي لصالح الهجرة من "إسرائيل" بلا عودة، خصوصاً لأصحاب الرساميل.
مشكلة خصوم المقاومة أنهم ليسوا بحجم هذه المقاومة، ليس على المستوى العسكري، بل على مستوى الحضور السياسي والشعبي، حيث ثلث الشعب اللبناني بيئة حاضنة لهذه المقاومة، ونصف الشعب اللبناني على الأقل مؤمن بها واجبة الوجود أمام المخاطر المحدقة بلبنان، سواء من الجنوب أو من الشرق، وأزمة هؤلاء الخصوم الذين يتابعون الأحداث عن بُعد عبر "الناضور"، أن حجم تمثيلهم قد يكون مناسباً للانتخابات البلدية والاختيارية، وأنهم على المستوى الوطني بقانون انتخابي على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة، لن يرى الكثيرون منهم مقعداً نيابياً.
وإذا كان أصحاب مقولة "قوة لبنان في ضعفه" يؤكدون مراراً ثقتهم أن القرارات الأممية كافية لتحرير لبنان، ورهانهم دائماُ على الحلول الدبلوماسية، فلا نرى موجباً لتعداد خيبات الأمم المتحدة في تطبيق قراراتها، ولا جدوى أيضاً من الإسهاب في الشرح لهم عن أطماع "إسرائيل" بالمياه النهرية والآبار البحرية التي تم ترسيم حدودها بفضل قدرة المقاومة على الردع.
تبقى مسألة غاية في الأهمية بل غاية في الخطورة، أن النقاش حول سلاح المقاومة والاستراتيجية الدفاعية قضية ترتبط بالأمن القومي اللبناني، ولا يجوز نشره عبر وسائل الإعلام على طريقة "نشر الغسيل"، لأن أهم ما في عمل المقاومة هو السرية المطلقة ضمن الإمكانات، فأية مقاومة وأي سلاح يؤتمن عليهما بعض صغار أهل السياسة وأقزام الإعلام، وهو بات مادة نقاش برامج "التوك شو"، وهم يدركون أن لبنان مُخترق بكل وسائل الاستخبارات والتجسس المعلوماتي والبشري، وأين يُمكن تخزين سلاح المقاومة وكل تضاريس لبنان مرصودة من العدو على مدى 24 ساعة/7 أيام؟
مهما تصاعدت المواقف الكيدية من خصوم المقاومة، ومهما طالت الألسن الطويلة الثرثارة، فإن سلاح المقاومة لا يُبحث سياسياً سوى على مستوى الحريصين على السيادة اللبنانية، وليس مع جماعات الكانتونات ودعاة الفيدرالية والتقسيم، ولا يُبحث لوجستياً سوى بين قيادة الجيش وقيادة المقاومة، وأنه غير قابل للبحث قبل انسحاب العدو الصهيوني من الأراضي اللبنانية وترسيم الحدود البرية مع هذا العدو، وضمان سلامة الحدود البحرية إضافة الى ترسيم الحدود البرية مع سورية، ودحض الادعاءات بأن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا سيادة لبنان عليها مُلتبسة.
ويجب ألا يُفاجأ أصحاب الرؤى القصيرة المدى إذا انفجر الوضع الداخلي في سورية، وامتد لهيب الصراع الداخلي إلى الحدود الشرقية اللبنانية، خصوصاً أن الأنباء الواردة من سورية تَشِي بأجواء قاتمة نتيجة انتشار جماعات متشددة سواء من "داعش" أو الفصائل التي تتماهى معها، وترفض تفرُّد هيئة تحرير الشام بالحكم، مع ما تشكله هذه الجماعات من مخاطر على الحدود مع لبنان، وسط ما يتمّ تداوله عن احتمال حدوث انقلاب على حكم أحمد الشرع.
ختاماً، قد يكون البعض في لبنان أخذ على وزير الدفاع قوله: إن الجيش اللبناني يملك "البرستيج"، بصرف النظر عن الأسلحة التي يمتلكها، فإن "برستيج" هذا الجيش يعطي أروع صورة للبنانيين عند انتشاره بينهم في عمليات ضبط الأمن الداخلي، ويُدخل الطمأنينة إلى القلوب، ولكن مع عدو عنصري مدجج بكل أنواع الأسلحة والتقنيات، فإن "البرستيج" الذي يتحدث عنه الوزير منسّى لا يعني البحث في استراتيجية دفاعية مع جماعات في الداخل اللبناني تنتظر قرارات أممية لتحرير لبنان، وفعاليتها لا تتعدى قوة "النقَّيفة".