أقلام الثبات
احتار المروجون للخضوع لمطالب العدو "الإسرائيلي" وإملاءاته؛ وللقبول بالشروط وأعمال الضغط المتواصلة، من الأميركيين ومن العرب المتصهينين؛ ومن بعض المسؤولين اللبنانيين الساعين للتطبيع مع العدو "الإسرائيلي"، في ابتداع أفكار واقتراحات يريدون فرضها على الحوار المفترض حصوله، حول صيغة الاستراتيجية الدفاعية وكيفية حماية لبنان من الخطر "الإسرائيلي".
فكل هم هؤلاء هو التخلص من المقاومة كفكرة ومشروع بالأساس؛ ومن سلاحها بالتالي، فالمقاومة بلا سلاح لا دور لها ولا فعالية، لأنها تصبح نقابة أو منتدى، أو حزباً في أحسن الأحوال، يتداول الكلام والتنظيرات على أرصفة المقاهي؛ وفي قاعات الندوات والمناسبات، لكنها تصبح عاجزة عن الفعل والمواجهة، أمام عدو لا يعرف غير لغة القوة والفرض.
ويتجاهل أصحاب تلك الأفكار والاقتراحات، أن العدو طوال 77 عاماً من عمر كيانه غير الشرعي، الذي اقامه باغتصابه فلسطين وتشريد شعبها، يعمل على تنفيذ مشاريع توسعية احتلالية واستيطانية، لا يخفيها، فترى هذا المسؤول اللبناني يرد على الغارات "الإسرائيلية" وأعمال القتل والتدمير اليومية التي تمارسها، بالدبلوماسية، في تعبير عن قناعته، بأن "قوة لبنان في ضعفه"، وكأنه بالدبلوماسية هذه، يراد جرّ لبنان واللبنانيين إلى الخضوع المطلق للإجرام "الإسرائيلي"، ولإملاءات الوصاية الأميركية، التي تشرف حالياً على كل نواحي الحكم اللبناني، ولعل استعداء إيران واستفزاز العراق، حلقة أساسية في مشروع حصار لبنان والمقاومة، توطئة لتنفيذ كل ما تأمر به الإدارة الأميركية والحكومة "الإسرائيلية".
ويتصدر مسؤول آخر المشهد ليقول إن زمن المقاومة انتهى، فيلاقيه مرجع ديني مشبوه بارتباطاته، يعتبر أن المقاومة خروج على الدولة، وأن السلاح يجب حصره في يدها، في تجاهل منه إلى أن غياب الدولة وتخليها عن دورها ومسؤولياتها، هو السبب في نقل عملية الدفاع عن الأرض والشعب وسيادة الوطن، إلى أيدي الشعب والشرفاء من رجاله وشبابه، مادامت الدولة خاضعة لـ"الفيتو" الأميركي الذي يمنع تسليح الجيش بما يجعله قادراً على التصدي للعدوان "الإسرائيلي"، وهذا ما نشاهده حالياً، عندما يصادر الجيش سلاحاً للمقاومة، فيقوم بتدميره بدلاً من الاستفادة منه، لأن أسلحة المقاومة أكثر حداثة من أسلحته، فالأميركي يرفض أن يمتلك جيش لبنان أسلحة، غير الخردة المنتهية الصلاحية التي "يتكرم" فيها عليه.
ووصلت الأمور إلى حد أن الموفدين الأميركيين إلى لبنان، الذين تصرً إدارتهم على أن يكونوا يهوداً وصهاينة، يرفضون أن يتكلم معهم العسكريون اللبنانيون بصيغة أن "إسرائيل" عدو وأن جيشها هو "جيش العدو" الذي يتقصد بين وقت وآخر، قتل عسكريين لبنانيين.
كما أن بعض العرب "التطبيعيين"، مثل الموفد السعودي يزيد بن فرحان، الذي نقل عنه "أن العدو جاد في تهديداته بإعادة تفجير الجبهة مع لبنان". وهو أي العدو "يمتلك تصورا محددا لمستقبل لبنان وسورية، انطلاقا من خلفية توراتية باتت معلومة للجميع"؛ وذلك لإعطائها شرعية دينية تبرر له خضوعه الذليل للأمر الواقع "الإسرائيلي"، المدعوم بالبلطجة الأميركية والغربية، وعلى هذا الاساس، يدعو "إلى نزع الذريعة التي يتمسك بها نتنياهو، اي تسليم سلاح حزب الله في جميع المناطق اللبنانية وليس فقط في جنوب لبنان والبقاع". فهل إذا نزعت الذريعة سقطت أطماع العدو واختفت مشاريعه التوسعيةـ العدوانية، أم أن المطلوب هو تسهيل الطريق أمام تلك المشاريع لاستكمال أمركة المنطقة و"أسرلتها" وتهويدها؟
هو منطق مقلوب يقف على رأسه وليس على قدميه، منطق أعوج يخلو من أي ذرة من الكرامة والسيادة والرجولة، فكيف تواجه عدواً لا يخفي نواياه التوسعية ويمارس القتل بحقك، بالكلام والمساعي الدبلوماسية. وكيف تصد عدواً يحمل أفكاراً ومشاريع خرافية دينية مفبركة، تقول بأن بيتك وأرضك ووطنك ملك له، فتقوم بنزع سلاحك وتقدم نفسك لقمة سائغة له. وكيف سيكون هذا الحوار الوطني المعلب بأفكار غير منطقية، لا تحمل غير الاستسلام للعدو.
ولعل أقل الأفكار الاستسلامية وقاحة، تلك التي تتحدث عن ان الحل هو بالعودة إلى اتفاق الهدنة للعام 1949، مقابل نزع سلاح المقاومين، باعتبار ذلك الاتفاق "واقعي وعملي ورسمي بين لبنان وكيان العدو". لكن أصحاب هذه الفكرة يضعون العربة أمام الحصان، فهم يتجاهلون أن العدو منذ العام 1948 مارس آلاف الاعتداءات بحق لبنان وسكان جنوبه تحديداً. وعام 1948 حقق كل ما يستطيع هضمه من توسع واحتلال، بما في ذلك احتلاله 13 قرية لبنانية، تجاهلت الحكومة اللبنانية حينها دفع جيشها لتحريرها. ثم صمتت عن المطالبة بها. كما صمتت عن احتلال هذا العدو لمناطق أخرى في عامي 1978 و1982، حيث احتل العدو مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم اللبناني من قرية الغجر. ثم رفض التخلي عن 13 نقطة عند انسحابه عام 2000. والآن يصر على ابقاء احتلاله لخمسة مناطق، محيطة بالتلال الخمس التي حولها إلى مواقع عسكرية، داخل الأرض اللبنانية. فهل يقبل العدو بالعودة إلى ذلك الاتفاق؛ وينسحب من الأراضي اللبنانية؛ ويلتزم الحدود الدولية الرسمية المعروفة؛ ويوقف اعتداءاته، فتأخذ المطالبة بوقف أعمال المقاومة حداً أدنى من الشرعية، أم أن المطلوب هو الاستسلام الكامل للعدو، لأن البعض من اللبنانيين والحكام العرب يعيش اوهاماً بعلاقات قد تفيده مع العدو، منذ ايام الوكالة اليهودية؛ ومنذ أن أشرف الاستعمارين البريطاني والفرنسي على تعيين الحكام والعائلات الحاكمة في البلدان العربية؛ وجاء الأميركي ليرث التركة ومن عليها ويثبت اولئك الحكام، باعتبارهم نواطير عنده يسهلون له سرقة خيرات هذه البلاد واستعباد شعبها.
وفي كل الأحوال، بحوار أو من دونه، تبقى الصعاب محك الرجال والشعوب. ويبقى السلاح ضرورة طالما بقيت اطماع العدو واعتداءاته. والمستسلم قال كلمته وخضع لمشيئة "إسرائيل" وأميركا، والمقاوم قال كلمته بالتضحيات الغالية التي يقدمها؛ وبآلاف الشهداء الذين ارتقوا وما زالوا، دفاعاً عن الأرض والعرض والشرف، رغماً عمن لا يعرفون معنى الشرف والسيادة.
