أقلام الثبات
اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب توجيه رسالة أمام عدسات الكاميرات بوجود بنيامين نتانياهو، ليُبدي إعجابه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقال: "تربطني علاقة رائعة برجل يُدعى أردوغان، أنا معجب به وهو معجب بي، ولم تكن بيننا أيّ مشكلة.. إنّه رجل قويّ وذكيّ للغاية.. لقد فعل شيئاً لم يستطع أحد فعله خلال ألفَي عام، وهو السيطرة على سوريا".
نحن لا نأخذ بعين الاعتبار "دردشة" ترامب لإغاظة نتانياهو، ولا براغماتية الرئيس الأميركي في تطبيق سياسات بلاده الخارجية، لأن غالبيتها خائبة، لكن كما أن جنوب سوريا غير مُهيأ لاحتلال "إسرائيلي" دائم بل لتطبيع مجتمعي واقتصادي بين دروز الجولان المحتل ودروز السويداء، فإن الشمال السوري سيكون على هذه الشاكلة مع تركيا، بعد الإنذار "الإسرائيلي" بعدم السماح لتركيا إقامة قواعد عسكرية خاصة في الوسط السوري، وتحديداً قاعدة T4 بين تدمر وحمص، وأن أية قاعدة تركية مُزمع إقامتها يجب أن تكون على بُعد 240 كلم من خط حدود فلسطين المحتلة مع سورية، لكن بعد انتهاء اجتماع وفدين من تل أبيب وأنقرة حول سورية في أذربيجان منذ أيام، ذكرت وسائل إعلام "إسرائيلية" رفض تل أبيب أي وجود تركي على الأراضي السورية.
الوجود التركي في سورية ليس بالضرورة عسكرياً، بل هو يتمثَّل بضباط وعناصر استخبارات وديبلوماسيين أتراك في فندق Four Seasons بدمشق، ومن هناك تُدار أمور السلطات السورية العُليا، والمشكلة، أن نظام الرئيس أحمد الشرع قائم سياسياً لغاية الآن ليس فقط على المشورة بل على الرؤية التركية لمسار الأحداث، ولا يستطيع الشرع مخالفتها، لأن جيشه "تركيبة تركية" من الإيغور والأوزبك والشيشان، وحكومته مَدِينة في تشكيلها للإرادة التركية.
هنا تكمُن معضلة الشرع في القدرة على الاستمرار، ما لم يقتنع بوجوب إعادة تشكيل حكومته لتمثيل سنَّة سورية وأكرادها وعلوييها، ومراعاة الواقع المسيحي الصامت، وأن أربعة عشر وزيراً من هيئة تحرير الشام لا يمثلون سنَّة سورية، بل هم توليفة من ثقافة داعش والنصرة والتكفيريين، وهكذا حكومة هي السبب الرئيسي في أفول العرب عن سورية، رغم أنهم حاولوا الانفتاح على الشرع وزاروه واستقبلوه.
فَهِم السوريون أن الشرع باقٍ لولاية مدتها خمس سنوات كمرحلة انتقالية، ويفهمون طبيعة النظام الرئاسي وهو ليس جديداً عليهم، باستثناء إلغاء منصب رئيس الحكومة ولكن، كل القيادات والقرارات السياسية مجتمعة بشخص الرئيس الشرع، وكل المؤسسات تُدار من هيئة تحرير الشام، وكل الجيش السوري الذي كان من أقوى جيوش المنطقة بات بضعة آلاف من "النصرة" و"الجيش الوطني" التركي الانتماء والتمويل والتجهيز، ويواجه رفضاً من الشعب السوري، بدءاً من محافظات الجنوب، مروراً بالساحل ما بعد المجازر، ووصولاً إلى حلب، وحلب هي بيت القصيد الآن، وهي التي ستقلب المعادلة السياسية الداخلية في سورية.
منذ أيام انسحبت قوات سورية الديمقراطية "قسد" من حيَّيّ الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، تطبيقاً للاتفاقية بين قائدها مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع بشأن دمج "قسد" بجيش وزارة الدفاع، وحاول "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا الحلول مكان "قسد"، فرفض الأهالي دخوله، وسمحوا فقط بدخول قوات من "الأمن العام"، مع اتهامات وجهوها لقيادة هذا الجيش بأعمال قتل ونهب وسرقة.
بعد المجازر التي ارتكبها "الجيش الوطني" من ألوية "العمشات" و"الحمزات" والأجانب التكفيريين في الساحل، بحق أبناء الطائفة العلوية، انتهجت حلب لغة رفض دخول هذه الجماعات إلى أحيائها؛ أسوة بمحافظات الجنوب، مع وجود فارق كبير؛ أن درعا لديها قوتها الذاتية من جماعة أحمد العودة، والقنيطرة والسويداء لديهما القوى المحلية الدرزية، بينما حلب ليست لديها قوة تحميها في الوقت الحاضر بعد رفضها للجيش الوطني.
مواطن من حلب قال: منذ سنوات فكك هؤلاء مصانع حلب ونهبوا معداتها وباعوها في الداخل التركي مع شركاء أتراك، واليوم هم أنفسهم يقتلعون بساتين الزيتون من "عفرين"، ونرى بأعيننا كيف ينقلون بالشاحنات أشجاراً عمرها عشرات بل مئات السنوات لغرسها في تركيا، ولن نسمح لهم بدخول حلب لأنهم أينما دخلوا عاثوا في الأرض إجراماً وعنفاً وتشبيحاً، بذريعة أنهم هم مَن أسقطوا لنا نظام الأسد، ويستخدمون علينا الفوقية في التعامل تماماً كما في كل منطقة يتواجدون فيها، حتى في العاصمة دمشق.
ودمشق التاريخ، لا تحتاج منا كلمات المديح والثناء والإطراء، بقدر ما نحن في قلقٍ عليها، وعلى سماحة الحياة الدينية فيها، عندما يستخدم بعض التكفيريين في شوارعها وأحيائها شعارات متطرفة لا تليق بأدبياتها، هي التي احتضنت كل الديانات والثقافات بحُب وحكمة ورؤية واعية، ولا نعتقد أن "تتريكها" ممكن وأن بوابتها مشرّعة على "العثمنة"، وصبر أبناء إسلام بلاد الشام، لن يدوم طويلاً، وكل حكومة لا تشبه الشعب السوري الأصيل وعروبته الراسخة ليست إلا مؤقتة وطارئة، ورفض الشارع الدمشقي المنضبط لغاية الآن لا ضمانات له أن يبقى كذلك إذا استمر الفلتان، والزيارات العربية والخليجية للرئيس أحمد الشرع وآخرها لدولة الإمارات، فرصة لمنع أفول الحضور العربي عن أجواء سوريا، خاصة لجهة الوضعين الاقتصادي والبنيوي، وهذا ما يُلزمه بمباشرة الابتعاد عن "تتريك" سورية و"أخونتها"، وقد يكون التعديل الحكومي لصالح الإسلام السني الشامي هو أولى الخطوات المطلوبة من الحلفاء قبل الخصوم إذا أراد الشرع لنفسه أن يستمر.