أقلام الثبات
انقلب الكثيرون فجأة، ليصبحوا غيارى على بيئة المقاومة، يريدون إنقاذها من خيارها المقاوم، وأبرز الغيارى هم أولئك الذين لم يعتبروا العدو "الإسرائيل" يوماً عدواً؛ ولم يواجهوا اعتداءاته بحجر، إن لم نقل برصاصة تردع أطماعه، بل تعاملوا معه في السر والعلانية، ولم يروا من المقاومة إلا الشر المطلق، ويصفون جمهورها بأنه لا يحب الحياة، علماً أن الذين يضحون بأرواحهم حفظاً للكرامة، هم الذين يحبون الحياة، لأن الذليل ميت فهو يتنفس هواء العبودية.
وهؤلاء الغيارى هم الذين يقولون عن أهل المقاومة "ما بيشبهونا"، بغض النظر عن تلك البيئة المقاومة، هل هي من طائفة أو مذهب معينين، أو هي بيئة لا طائفية علمانية أو يسارية، ما تزال تحافظ على موقفها من قوى التسلط والهيمنة العالمية؛ ولم تلتحق بركبها مثلما فعل كثيرون، أو هي بيئة قومية وحدوية، هي أقرب إلى العلمنة منها إلى التطييف، تسعى لتوفير القوة لأمتها، عبر توحيدها، بما يجعلها عصية على الإخضاع والاستتباع.
حجة تلك القوى "الغيورة" أنها تريد إنقاذ أهل المقاومة ومؤيديها من المعاناة والخسائر التي تعرضوا لها، أو سيستمرون بالتعرض لها، طالما تمسكوا بموقف رفض الخضوع للبلطجة الأميركية والإجرام "الإسرائيلي"، والحل عند تلك القوى هو القبول بتسليم البلد ورقاب أهله للوصاية الأميركية، التي فرضت نفسها على كل معالم الحياة؛ وحتى معالم الموت، في لبنان والمنطقة. فالمطار والمرافئ باتا تحت الوصاية الأميركية المباشرة، والجيش يبدو كأنه سبقهم بارتهانه في كل شيء للأمر الأميركي، فهو ممنوع من قتال العدو "الإسرائيلي"، وممنوع عليه استعمال السلاح الأميركي ضد المعتدي "الإسرائيلي"، كما ممنوع عليه التسلح بسلاح يهدد التفوق "الإسرائيلي"، كل ذلك لقاء خردة من السلاح الأميركي القديم، الخارج عن الخدمة. ولقاء تمويل لا يسمن ولا يغني، قوامه مائة دولار لكل جندي شهرياً، حتى لا يترك العسكر ثكناته، بعد أن هوت قيمة الرواتب وباتت لا تكفي للتنقل، نتيجة الأزمة المالية القاسية التي شهدها لبنان، إثر القرار الأميركي بتجفيف لبنان من العملات الصعبة، بالتوازي مع قانون قيصر الذي اتخذ لحصار سورية.
ويلوح اولئك الغيارى بالويل والثبور الذي سيصيب المقاومة وجمهورها، بعد أن احكم الحصار عليها، من الجنوب والشرق والشمال، فيما الغرب بحر أميركي و"يونيفيلي" تسيطر عليه الأساطيل الأميركية وبوارج "اليونيفيل" الألمانية وغيرها.
مشكلة هؤلاء أنهم يخطئون في مسلماتهم، فالمقاومة كانت وما تزال ضرورة وليست خياراً، هي ضرورة لرفع العدوان ورفض الذل والعبودية. ولا خيار في مواجهة الغزوة الصهيونية – الغربية، إلا المقاومة أو الاستسلام والتحول إلى نموذج عن الضفة الغربية الفلسطينية، تحت تهديد نموذج غزة. وطالما "اسرائيل" موجودة بعدوانيتها، فالمقاومة ضرورة. وهي اما أن تكون مقاومة رسمية تحمي فيها الدولة وجيشها حدودها وامن شعبها؛ واما هي مقاومة شعبية تتولى هذه المهمة امام تقصير السلطات.
مشكلتهم الثانية، هي أن أطماع العدو لا حدود لها، فالعدو لم يكتف بحدود التقسيم عام 1948، بل استكمل احتلال كل فلسطين. وتوسع ليحتل أراضي الدول العربية والمجاورة، مدعوماً من دول الاستعمار الغربي القديم والحديث. وهو يعمل بجد لتحقيق هدفه (حدودك يا "إسرائيل" من الفرات إلى النيل). وها هو جيش العدو يحتل جنوب سورية ويتقدم حيث يشاء.
أما مشكلتهم الثالثة، فهي مع جمهور المقاومة الذي يرفض الوقوف في العراء، من دون وجود قوة تحمي أرضه وعرضه وكرامته. فالمقاومة والوصاية ضدان لا يلتقيان. وهذا الجمهور يعتبر أن المقاومة كفكرة ومشروع، تتقدم على اللافتات والأسماء، فالمقاومة وجدت قبل حزب الله وستبقى بعده، إذا أدى ظرف ما أو سبب من الأسباب لتراجع الحزب عن المقاومة. فالمقاومة كفكرة وفعل ستستمران، طالما الخطر "الإسرائيلي" ماثل. والتخلي عن السلاح ليس حلاً. واستغباء الناس بشعارات السلام لا تنطلي على أحد، فاذا كانت أطماع الصهيونية تمتد من فلسطين إلى الفرات والنيل، فإن أطماع أميركا والغرب تشمل كل المنطقة والعالم. والشعوب القابلة للحياة هي التي تحمي وجودها وسيادتها وكرامتها.
مشكلتهم الرابعة هي أن خيارهم البديل ساقط، فالأميركي ليس جمعية خيرية ليعمّر لبنان ويجعله واحة من النعيم، بل هو بلطجي ومتسلط يعتدي على حريات الشعوب ويستولي على أرزاقها. فهل يدلنا هؤلاء المضللين على دولة احتلتها الولايات المتحدة، إلا وحولت شعبها إلى عبيد يخدمون سياساتها واطماعها وشركاتها. وها هي طلبات دونالد ترامب من الدول والشعوب، ترد على تخرصات أبواق أميركا في لبنان.
والولايات المتحدة تضغط بكل الأساليب، لاستكمال سيطرتها الكاملة على لبنان، بعدما بنت فيه أكبر سفارة لها واقامت منشآت على بحره. وأعادت بناء السلطة فيه، حسب رغبات حكامها المحكومين من الصهيونية. وها هي إدارات الدولة اللبنانية، من الرئاسات وأعضاء الحكومة، إلى التعيينات الإدارية والوصاية على المرافئ والمرافق والأجهزة الأمنية والعسكرية، باتت كلها تحت الإشراف الأميركي. فاين اعداء الامبريالية والاستعمار في لبنان. وأين المناضلين في سبيل الحرية وضد التبعية والهيمنة الاميركية. وهل كان التضامن مع فيتنام ونيكاراغوا وكوبا، أكثر الحاحا من التضامن مع الذات والوطن، في وجه البلطجة الاميركية والاجرام "الاسرائيلي" واعماله التوسعية.
في المقابل، فإن بيئة المقاومة تصرح علناً، بأنها هي المقاومة، دفاعاً عن الأرض والعرض وسيادة الوطن، التي لم تحميها يوماً مختلف العهود اللبنانية وحكوماتها. وجمهور المقاومة يردد هذه الأيام: نحن المقاومة والمقاومون أبناءنا ونحن أهل الشهداء والجرحى. ونحن أهل أولئك الصامدين المتوثبين لأخذ ثأرهم من هذا العدو؛ ومن كل من وقف معه ودعمه. كما أن السلاح هو سلاحنا وليس ملكاً لأي جهة أو دولة أو حزب. سنتمسك به، نحميه ليحمينا من الثعالب والذئاب المتربصة بكل حر شريف في هذه المنطقة، فأسرلة المنطقة وأمركتها، تعني تحويلها إلى إسطبل من المخلوقات تعمل في خدمة مالكيها؛ ولا يسمح لها بغير العلف والتناسل، لتبقى مزرعة وبقرة حلوباً ومصدراً للمال والثروة للأميركي و"الإسرائيلي"، أما الحكام الخانعون فمصيرهم لا يختلف عن مصير رعاياهم، عبيد عند الوصي ووكلاء في ضبط حركة ساكني الإسطبل وضبط وقمع ردود أفعالهم.