أقلام الثبات
قانون إبعاد الهنود الحمر في أميركا عن مناطقهم الأصلية، أصدره الكونغرس في 28 أيار/ مايو من عام 1830، خلال فترة رئاسة أندرو جاكسون، وسمح للرئيس بالتفاوض مع القبائل الأميركية، التي كانت معروفة محليًا آنذاك بالهنود الحُمر، وكانت منتشرة في جنوب الولايات المتحدة، لإبعادهم إلى أراضٍ فدرالية غرب المسيسيبي، مقابل التخلي عن أراضيهم الأصلية.
وحصل ذلك القانون على دعم كبير من السكان غير الأصليين في الجنوب، الذين كانوا يتطلعون إلى الحصول على أراضي الغير، بينما عارضت البعثات التبشيرية المسيحية هذا القانون، لكنها لم تنجح في إقناع أبناء الأرض بالبقاء في أرضهم، لا بل كانوا يغادرونها مذعورين، لأن "أصحاب البشرة البيضاء كانوا يهددونهم بإطفاء نور القمر عنهم والعيش في الظلام ما لم يُغادروا"!
هكذا وبكل بساطة، هزمت أميركا الشعب البسيط، وبعد مرور نحو ثلاثة قرون لنشأة أميركا على عظام الهنود الحمر، تطوَّر الفكر الاستعماري الأميركي، وباتت عملية مُبادلة الأرض عبر التهجير إحدى ثوابت القوة الأميركية "تحت طائلة حرمان عُصاة الأوامر من ضوء القمر".
لا شك أن أميركا كانت وما زالت الوطن البديل للمهاجرين، منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، وغدا معنى المواطنة بنظر الأميركيين ليس الانتماء للأرض بل للدولة، بقدر ما تؤمِّن من تقديمات وتسهيلات وضمانات، والشعب الأميركي لا تهتز له شعرة خلال حروب بلاده العدوانية، منذ نكبة فيتنام مروراً بكل النكبات والنكسات، وآخرها في العراق وأفغانستان وبلاد الشام، لكن هذا الشعب ينزل إلى الشارع بطريقة عنيفة لو ارتفع سعر غالون البنزين سنتاً واحداً.
ومن هذا المنطلق الرعائي للدولة الفيدرالية في الولايات الخمسين، تنشأ الأجيال الأميركية وتنتقل للعيش من ولاية الى أخرى، وينتشر أبناء العائلة الواحدة في أكثر من ولاية، دون أي ارتباط لا بالأرض ولا بمسقط الرأس، وهذا ما تختلف فيه الدول النامية ومنها دول الشرق الأوسط عن أميركا، التي تعتبر بقاء أبناء غزة على أرضٍ كالجحيم غير قابلة للسكن وفق توصيف ترامب نوعاً من الحماقة، بينما هي بالنسبة للفلسطينيين أرواحهم في التراب.
ومع ذلك، ورغم الردود الدولية والعربية على "صفقة ترامب" لتهجير فلسطينيي قطاع غزة الى مصر والأردن والصومال، وحتى الى المملكة السعودية، فهو لم يتوانَ عن فتح الكتاب الأميركي الأول، باب "قانون الهنود الحمر"، وهدد بفتح أبواب الجحيم ما لم يتم إطلاق الرهائن الصهاينة دفعة واحدة مع تحديد الساعة والتاريخ، وتناسى أن الشعب الذي يعيش الجحيم لن يخشى أي جحيم آخر.
والرئيس ترامب الذي أوفد وزير خارجيته ماركو روبيو في جولة على "إسرائيل" والسعودية والإمارات، يبدو أنه أدرك، بعدم جدوى مرور الوزير روبيو على الأردن ومصر، لأن الأردن مستاء من إملاءات ترامب خلال استقباله الملك عبد الله في البيت الأبيض، ومصر قد أنجزت بتأييد عربي خطة إعادة إعمار غزة دون الحاجة لمغادرة سكانها أرض القطاع.
تبقى النقطة الهامة ضمن المرحلة الأولى من وقف النار، بل هي النقطة الأهم في الوقت الحاضر، أن "إسرائيل" التي تتعمد المماطلة في تطبيق "البروتوكول الإنساني" في المرحلة المذكورة، سوف تجد نفسها ملزمة بإدخال كامل المعدات الثقيلة التي تنتظر عند معبر رفح، من جرافات ومعدات حفر ثقيلة، وبمجرد أن تفرض حماس شرط دخول هذه المعدات قبل الدخول بمفاوضات المرحلة الثانية، فهذا يعني هزيمة لصفقة ترامب للتهجير، وبداية نصر عربي لبدء عملية إعمار غزة، عبر المباشرة برفع الركام وتأهيل البنى التحتية وفي مقدمتها إصلاح آبار المياه التي دمرها العدوان الصهيوني بغرض التهجير القسري.
وبصرف النظر عن ما اعتبرتها "سكاي نيوز" مصادر خاصة قولها، أن حركة حماس أبلغت القاهرة عن استعدادها لتسليم حكم القطاع إلى سلطة منظمة التحرير، فإن وحدة الموقف الفلسطيني مطلوبة بإلحاح أكثر من أي وقت، لنزع ذريعة الصهاينة والأميركيين في استفراد حماس عبر حرب تدميرية جديدة على قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، لأن أميركا أرسلت إلى ميناء أشدود منذ أيام 1800 قنبلة زنة الواحدة حوالي ألف كيلوغرام، وهذا النوع من القنابل لا يُستخدم سوى لتدمير المربعات السكنية بهدف التهجير، على طريقة الجحيم الذي هدد به ترامب.