أقلام الثبات
بدا النائب السابق وليد جنبلاط في زيارته الى سورية وكأنه عبَّد طريق بيروت - دمشق لسواه، وهو إن أقدم على هذه الخطوة بعد غياب دام ثلاثة عشر عاماً، فهي كرمى لعيون "الطايفة" المنقسمة جزئياً حول شرعية زعامته، بين لبنان وجبل الدروز والجولان المحتلة، لكن ما لم يفهمه اللبنانيون هي زيارة "لقاء سيدة الجبل" برئاسة النائبين السابقين فارس سعيد وأحمد فتفت لكاتدرائية مار أنطونيوس المارونية والجامع الأموي بدمشق، سيما أن شعبية سعيد المسيحية تقارب شعبية "مطران مكة"، وشعبية فتفت السنية تقارب شعبية "مفتي الفاتيكان".
كل دول العالم التي أرادت الوقوف على وضع سورية بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، أرسلت وفوداً حكومية رسمية، إلا لبنان المُمزَّق، لأن البعيد عن سورية أرسل وفداً رسمياً، واللصيق بها مثل العراق والأردن والسعودية والكويت أرسل وفداً رسمياً، فيما لبنان على حاله من تفكك السرب الوطني، ليتظهَّر لنا أن المصيبة اللبنانية هي في العقلية الطوائفية القائمة على التبعية لكل ما هو خارجي مذ كان لبنان تحت الاحتلال التركي، ضعيفاً واهناً ّمشتتاً، يلتمس القائمون عليه رضا "والي الشام" و"والي عكا".
لا حاجة للعودة بالتاريخ إلى الوراء؛ من زمن المتصرفية العثمانية، إلى زمن الانتداب الفرنسي، وصولاً الى ما نعتبره استقلالاً، لأن الخلافات البينية الطوائفية متلازمة ولصيقة بالكيان اللبناني؛ منذ الصراع الدرزي الماروني في جبل لبنان، وصولاً إلى المارونية السياسية المحسوبة على فرنسا، الى يقظة القومية العربية لدى السُّنة مع جمال عبد الناصر والقضية الفلسطينية، وانتهاءً بالشيعية السياسية التي لمع نجمها مع ولادة المقاومة، في مواجهة "والي عكا" الصهيوني الدم والفكر والعنصرية، لتنتهي الأمور إلى مزيد من الانقسامات اللبنانية حول بدعة السلام مع "والي عكا" المحتل.
ومع عجز الطبقة السياسية في لبنان عن انتخاب "والٍ على الجمهورية" عند كل استحقاق رئاسي؛ كما هو الحال الآن، فالمسألة لا علاقة للصهيوني في "ولاية عكا" بها، ولا "ولاية الشام"، لا بل نقلاً عن "الوالي الحالي أحمد الشرع"، فإن سورية لا ترغب بالتدخل في الشأن الداخلي اللبناني، ومع اختلاط الأوراق الإقليمية بالدماء والدمار والغبار، يستمر ارتحال اللبنانيين بخلافاتهم البينية إلى عواصم الخليج وأوروبا وصولاً إلى أميركا، ليس للبحث عن حاضنة تجمعهم، بل عن حواضن استقواء على بعضهم، ويراهنون على كل متغيِّر دولي أو إقليمي، بدءاً من وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض، مروراً بالمرحلة الرمادية التي تطغى على قصر المهاجرين في دمشق، وانتهاءً بالسقوط في "الوقعة السوداء" كما عند كل استحقاق على مفرق بعبدا، حيث مفتاح القصر بعهدة الآخرين على الدوام.
يجب ألا تعني اللبنانيين بشيء أية خطوة فئوية نحو دمشق، لأنها غير ذات جدوى على كل حال، ويجب ألا تعني اللبنانيين هذه "الفرفرة الفردية" ذات الطابع المذهبي الضيق، لأن السويداء ليست بوابة الشام، وباب كاتدرائية مار انطونيوس في باب توما لن يفتح لمسيحيي لبنان وسوريا أبواب المشرق، ولا المسجد الأموي مأوى مفتوح للباحثين عن حيثية خارج بلدهم، وتبقى التصرفات الفردية غير الرسمية مسيئة لسمعة لبنان على وسائل الإعلام ومواقع التواصل، عبر كل لبناني يعيش زمن العز الغابر، وحصل على لقب "بك" و"أفندي" و"شيخ" خُلِع على أجداده من الباب العالي العثماني، وما زال حتى يومنا هذا ينحني على عتبات أبواب الآخرين، وطريق بيروت - دمشق شاهدة على تاريخ الجميع.
والشعب اللبناني آن له أن يعيش مرحلة الخجل من أداء هؤلاء ّ"الفاتحين على حسابهم"، وأن يُحاسِب الخارجين على الدولة لصالح كانتونات بحجم أشخاصهم، و"لبنان الكبير" ما بعد العام 2000 ليس أصغر من "لبنان الكبير" الذي رسَّمه الانتداب، وبصرف النظر عن نتائج عدوان أيلول 2024, فإن المقاومة في لبنان وإن وجدت نفسها وحيدة بمعزل عن العالم العربي في حالة حرب دفاعية حقيقية عن حدود هذا اللبنان، هي جزء من النسيج اللبناني غير القابل للتمزيق، حتى ولو حاول كل "دكان طائفي" إلباس ثوبه لجزء من لبنان، ونعتقد أن الفاتحين على حسابهم هم بصدد إقفال الدكاكين قريباً.
والرسالة الواضحة التي يجب على كل لبناني قراءتها والاستفادة منها، وردت على لسان رئيس الإدارة العامة السورية أحمد الشرع، في لقائه مع قناة الحدث منذ يومين؛ أنه لن يقبل بتطبيق نظام المحاصصة العرقية والمذهبية في سورية، لأن ذلك سينعكس سلباً على الأداء الحكومي، وبدوره وزير الخارجية العراقي نصح السوريين بعدم اعتماد المحاصصة الطائفية والمذهبية العراقية، علماً بأن هذه المحاصصة مأخوذة من التجربة اللبنانية.
وهنا لا بد من تسجيل موقف إيجابي للمملكة العربية السعودية منذ بضعة أشهر، بوقف تعاملها مع الجماعات المنفردة والأفراد، وحصر علاقاتها بالحكومة اللبنانية والمراجع الرسمية، ولا نعتقد أن هناك دولة استقبلت سياسيين لبنانيين أكثر من المملكة، التي جعلوا منها حائط مبكى قبل "الطائف" وبعده، ويئست منهم، وهي التي أغدقت عليهم إلى حدود التبذير، ثم تبين لها أنها تشتري أزلام بلاط قابلين للبيع والشراء عند أول بازار في سوق النخاسة.