أقلام الثبات
في مشهدية فكاهية للفنان اللبناني الراحل فيلمون وهبي، جاء رجال الدرك للقبض على الحرامي عند عين الضيعة، فلم يجدوه، وحرروا محضراً بمصادرة أداة الجريمة الذي هو "السطل".
هذا حالنا في لبنان، ليس فقط عند عين ماء، بل حتى لو واجهنا عدواناً وأنهارَ دماء من مطلق مجرم وسارق ومُعتدٍ، مع تغيير بسيط في "استراتيجية" المواجهة، واستبدال تحرير المحاضر برفع شكاوى لمجلس الأمن.
وسط كل جرائم القتل والتدمير التي يرتكبها العدو الصهيوني في جنوب لبنان، قبل انتهاء مهلة الستين يوماً لانسحابه من بلدات وقرى الحافة الحدودية، وهو يتمادى في عدوانه لاستفزاز الجيش اللبناني والمقاومة والمواطنين الجنوبيين، الذين قد لا يصبروا الى ما لا نهاية أمام غطرسة الصهيوني، خصوصاً عندما انتقل إلى الحدود الجنوبية الشرقية التي تفصل بين لبنان وسورية بعد سقوط نظام الرئيس الأسد؛ في استغلالٍ لنكسة الجيش السوري، ولعملية إعادة الانتشار للجيش والمقاومة في لبنان.
ليس مطلوباً من الطبقة السياسية في لبنان تسمية المجرم ولا مصادرة "السطل"، بل التوافق على الأقل لتعيين ناطور على عين الماء السائبة، بدل أن يُعيِّن كل زعيم طائفي في لبنان نفسه ناطوراً على كل لبنان، ويقوم بتطويب مزارع شبعا - على سبيل المثال - إلى الغير، وكأنها واحدة من عقاراته، وهو بذلك يحاول التذاكي في مسألة تطبيق القرار 1559، القاضي بنزع سلاح الميليشيات، بعد الانتهاء من تطبيق القرار 1701، الذي ينصّ في آخر بنوده على تسوية خلاف الحدود البرية مع العدو "الإسرائيلي"، فيما هو "قرر" أن مزارع شبعا سورية، وبالتالي أهداها للصهيوني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ضمن تسوية "الضم والفرز" للقنيطرة والسويداء وإلحاقهما بالجولان المحتل.
لسنا هنا بصدد بحث النقاط الخلافية على الحدود مع فلسطين المحتلة أو مع سوريا، لكننا في مأزق دولة تديرها سياسياً جماعة من "ملوك الطوائف"، تتفرد بقراراتها بمعزل عن مركزية القرار الرسمي.
وفي الوقت الذي يتم التنسيق الكامل بين الجيش والمقاومة لتطبيق القرار 1701 في جنوب الليطاني، ومحاولة المجتمع اللبناني ترميم نفسه ورزقه من العدوان "الإسرائيلي" المجرم، يتظهَّر لنا عبر التصريحات السياسية غياب بعض المسؤولين اللبنانيين حتى عن الشعور بالمسؤولية الوطنية في حماية الحقوق اللبنانية.
قد يكون النائب السابق وليد جنبلاط أعطى نفسه الحق بزيارة سورية على رأس وفد كبير من طائفته، بهدف حماية أبناء الطائفة في الجنوب السوري، والبالغ عددهم نحو ثمانمئة ألف مواطن، وقد يحذو حذوه آخرون من طوائف ومذاهب أخرى، إسلامية كانت أم مسيحية، بذريعة حماية الأقليات في سورية، وبعضها تخاطب السيد أحمد الشرع بلقب "رفيق"، ولكن لا أحد على يبدو يعرف كمّ الفلتان الحاصل في سورية، وتحديداً في مناطق الأقليات، من الشمال الشرقي حيث الأكراد، الى الساحل حيث العلويون المستاؤون من تعامل بعض الفصائل معهم، وانتهاء بالجنوب حيث يشتد العصب الدرزي في القنيطرة والسويداء في حنين للالتحاق بالجولان المحتل، بصرف النظر عن الصيغة التقسيمية التي ترتسم على الخارطة السورية.
وإذا كانت الأزمة السورية ناشئة عن انهيار نظام، والأقليات هناك باتت تبحث عن نظام جديد يحميها ويضمن حقوقها السياسية، فمَن في لبنان يحمي حقوق الأكثريات والأقليات، فيما الكل ينظر إلى نفسه وكأنه الأكثرية، وما عداه أقليات، أو فئات مهزومة، ويدَّعي بأنه يمتلك حق البحث في مستقبل لبنان "ما بعد حزب الله"؟
مسألة تقييم النصر أو الهزيمة هي نسبية، وكل طرف يراها من منظوره، والمقاومة في لبنان خسرت الكثير، وأفدح خساراتها استشهاد سماحة السيد نصر الله، لكن إذا كان البعض يرغب التطبيل لنصر "إسرائيلي" مزعوم في لبنان، فإن بيئة المقاومة قد تشظَّت لكنها لم تسقط، وحزب الله إذا كان قد خسر من سلاحه، فإن حزب الله ليس فقط سلاحاً، كي تتجرأ أحزاب من "بيتين وتنور" لبحث مسألة حكم لبنان من دون حزب الله، الذي لم ينتهِ دوره ولا دور المقاومة قبل ترسيم الحدود البرية مع الكيان الصهيوني وترسيم الحدود مع سورية.
وبالعودة إلى الوضع السياسي الداخلي في لبنان، وتحديداً استحقاق رئاسة الجمهورية، فإن قصر بعبدا بات أشبه بعين الضيعة، والكل يتراصف أمام العين حاملاً سطله، وسوف ينزل في النهاية الرئيس المنتخب من مزراب العين، ولا أحد يعرف مَن أنزله، وتنتهي المسرحية بسطول فارغة، ويتم تحرير محضر بكل سطل، ويُعلن "شاويش الضيعة" انتخاب رئيس صنع في لبنان، في مسرحية هزلية تستحضر فكاهة فليمون وهبي.