خاص الثبات
في أحد الأزمنة، وربما ليس بعيدًا عن زماننا، كان هناك ديك.
ليس ديكًا عاديًا، بل رمزًا لبداية اليوم، صوتًا للحق، منبهًا بأن الوقت لا ينتظر المتأخرين، وأن الحياة تتحرك رغم كل شيء.
لكن في ذلك الزمان، لم يكن الجميع يحب الاستيقاظ.
البعض أحب الظلام، وتمسك بالجمود، وآخرون وجدوا في النوم راحة من مواجهة الواقع، وصدقوا أن الوهم أكثر راحة من الحقيقة.
ومع الوقت، أصبح صياح الديك تهديدًا.
"اصمت!" قال له صاحبه، "صوتك يزعج الجيران."
ارتبك الديك. وتردد. ثم قال لنفسه:
"ما الضرر إن سكتّ اليوم؟ هناك غيري سيصيح."
وهكذا كانت أول خطوة نحو التنازل.
أول تنازل يبدو صغيرًا، لكنه بابٌ لخسارة الذات.
ومرت الأيام، وصار السكوت عادة.
ثم جاء الصوت ذاته، لكن بلهجة أقسى:
"لا يكفي أن تصمت. كن مثل الآخرين. لا تختلف، لا ترفع صوتك، لا تظهر!"
قال الديك في نفسه:
"ربما هذا أذكى. الناس تُحب من يشبههم، من لا يُحرجهم."
فتنازل أكثر. خفت صوته. خفت وجوده. خفت حقيقته.
ثم جاء الأمر الأخير، قاسياً، عارياً من الرحمة:
"إما أن تتغير... أو نذبحك!"
وهنا فقط، فهم الديك. لكن متأخرًا.
ظن أنه سكت لينجو.
لكنه في الحقيقة، كان يموت... على أقساط.
هذه ليست حكاية ديك.
إنها مرآة لإنسان…
إنسان كان يملك رأيًا، وصوتًا، وموقفًا،
لكنه اختار أن "يُساير"، أن "يتأقلم"، أن لا يُزعج أحدًا.
خاف على نفسه، فخسرها.
خاف أن يُكره، فصار لا يُذكر.
كم من الناس سكتوا عن الظلم وقالوا: "ليس من شأني"؟
كم من موظف مرّر فسادًا خوفًا من مدير؟
كم من طالب شاهد التزوير وسكت لأنه "لا يريد المشاكل"؟
كم من كاتب تخلّى عن قلمه لأن الحقيقة أصبحت تهمة؟
كم من مفكر خنق فكره من أجل الأمان؟
ليس المطلوب أن تزعج الناس... بل أن لا تخون ذاتك.
صوتك هو أنت. رأيك هو هويتك.
الذي لا يجرؤ على قول "لا" حين يجب،
سيتحول مع الوقت إلى ظلٍ باهت لا لون له ولا ملامح.
لا تكن نسخة مستنسخة من الآخرين لتنجو،
فالنجاة الحقيقية أن تبقى واقفًا بصوتك، لا منبطحًا بصمتك.
وفي النهاية…
حين تصمت عن الحق خوفًا،
حين تجامل الباطل بدافع "السلامة"،
حين تمحو نفسك لتُرضي غيرك…
تذكّر صوت ذلك الديك، حين بكى وقال:
"ليتني متّ وأنا أصيح."
فكن أنت الصوت، حتى لو صاحبتك العواصف.
فمن يختار أن يكون حرًا، قد يخسر لحظة…
لكنّه لا يعيش عمرًا من الانكسار.