الثبات ـ مقالات مختارة
أذكر، حين قرأت عبارة «الديانة الأميركية» للمرة الأولى، ظننتها عبارةً للاستخدام في المجتمع السياسي داخل الدولة الإمبراطورية، وحاولت فهم المصطلح بما في الذاكرة عن الإنجيليين الجدد، أو «المخلوق الهجين» الذي يتشكل في التزاوج بين الإنجيليين الجدد والتيارات اليهودية الدينية وغير الدينية الفاعلة داخل المجتمع الأميركي، وما ينتج منها من تلمودية جديدة أو متجددة، ثم قرأت أخيراً عن كتابٍ قيد الإعداد أو النشر، تحت عنوان «الديانة الأميركية». لكن الكتاب لا يعكس المعنى والمضمون للعبارة المستخدمة تلك، الديانة هذه «علمانية»، عمادها و«قدسيتها» أميركية مئة في المئة «صنعا في أميركا»، أما مريدوها، فالمفترض أن لا ينحصروا بالأميركيين فقط، هذه الديانة الجديدة، هناك من يحلم أن تكون حدودها العالم، وكل شعوب العالم.
بعد عملية «طوفان الأقصى»، خرج بنيامين نتنياهو بخطاب من التاريخ، توراتي بامتياز، ولعل أهم ما جاء فيه كلمة «العماليق». ولمن يعرف أو قرأ عبارات العهد القديم حول معركة «العماليق»، ستحضر في ذهنه كلمة أخرى حتماً، هي «يهوه»، وفي القصة التوراتية هو «رب الجند». وبسبب التماهي الكبير، والحضانة والمشاركة الأميركية المباشرة مع إسرائيل في حربها المفتوحة ضد الفلسطينيين واللبنانيين، يميل الخيال الذي مسته هوليوود إلى رؤية «يهوه» الأميركي، بلباس عسكري، شيء كـ"full metal jacket"، أو خارجاً من ستوديوهات "marvel"، برفقة "thor"، بمطرقته التي تسبب البروق والرعود. بطريقة ما، أعيد في الولايات المتحدة ملء المكان بنسخة محدثة من «يهوه»، هناك نسخة منه في سيليكون فالي، وأخرى في وول ستريت حيث شركات فوق التغول المالي، ونسخات عدة في مصانع السلاح وشركات النفط والغاز، تنسل هذه النسخات داخل المجتمع بـ«هالات مقدسة»، تنسل داخل الرؤوس والقلوب، تدخل دور العبادة، المدارس والجامعات، سيستيقظ الطيبون يوماً على صراخ شخص ما: «لقد سرقوا إلهنا».
يختلف المشهد في كيان الاحتلال، قليلاً. «يهوه»، هنا، يشارك في اجتماعات الكابينت العسكري المصغر، كابينت القتل. «يهوه» هنا رفيق سلاح لبنيامين نتنياهو وطاقمه من المتشددين أكثر من ظلام الخرافة ذاتها. «يهوه» هنا هو رب الجند، رب المحاربين، يقف فوق رؤوسهم ويصرخ: مزيداً من الدم، مزيداً من الجثث، اقتل أكثر، دمر أكثر، احرق أكثر، أطفالاً ونساءً وحيوانات، اقتلوا وأنتم تنفذون مشيئتي، أنتم يدي في هذه الأرض. بهذه الذهنية، ثمة من يبرر، بل يفسر مقتلة اليوم، كتكرارٍ لإبادة العماليق على يد «يشوع»، وفقاً لرواية العهد القديم.
يحضرني عبارة للسناتور الأميركي ليندسي غراهام، «إسرائيل المكان المفضل لإقامة الله»، هل «يهوه» هو الله الذي يعنيه غراهام؟ إذا كان هذا المقصود، ربما سيكون من الأصح القول «إسرائيل المكان المفضل لاستيطان الله»، وسيكون الأمر مفهوماً وفقاً لـ«تلموديته»، ولكنه يصير كارثياً إذا كان المقصود به رب البشرية والإنسانية، وفي الحالين، من يناقش الدولة الوحيدة في العالم، التي تُخرِجُ في القرن الحادي والعشرين ديناً جديداً، ديناً يحمل اسمها، ديناً لا يحتاج سماءً، بل لا يحتاج إلهاً.
هل «يهوه» هو الله الذي يعنيه غراهام؟ إذا كان هذا المقصود، ربما سيكون من الأصح القول «إسرائيل المكان المفضل لاستيطان الله»
بالتأكيد، لا أريد المس بالمقدسات، ولا بمقدسات أحد، ولو كانت موضع استغراب أو نقاش، وعلى أي حال هو بحث آخر ويطول، ولكن، الحديث عن «يهوه» بنسخته الأميركية الإسرائيلية الجديدة، يأخذنا إلى قضية غاية في الأهمية، وهي كيف يُفهَمُ و يُفَسرُ ما جاء في العهد القديم، من قصص حول الحرب. وتأتي قصة العماليق كمثال؛ في تلك الحرب، أبيدت أمة بكاملها، وهي قضية شكلت ولا تزال، مادة بحث فلسفي داخل الكنيسة (منذ القرن الثاني الميلادي)، حين قال «ماركيون» الذي اتهم بالهرطقة، «إن إله العهد القديم ليس إله العهد الجديد، فالأول هو إله الحروب والقتل، والثاني هو إله المحبة والغفران». ورغم اتهام «ماركيون» بالهرطقة، حرصت الكنيسة على محاولة الوصول إلى أفضل مقاربة لكل من الإشكالية التاريخية والإشكالية الأخلاقية، عبر عدد من الطروحات أو النظريات أو المدارس (كتاب «حروب يهوه – عثرة الماضي وحيرة الحاضر» لديفيد ويصا. راجع المقدمة ومدرستي القضاء الإيجابي والقضاء السلبي)، ومع ذلك، تبقى المفارقة، أنه رغم اهتمام الكنيسة بهذه المسألة، نشاهد، ويشاهد العالم، هذه الملهاة الدموية الإسرائيلية الأميركية على مدى عام وشهرين.
ديفيد بوغدنوفسكي، جندي إسرائيلي قتل خلال المعارك في منطقة خان يونس بقطاع غزة خلال شهر كانون الأول من العام الماضي، دفن في مقبرةٍ لجيش الاحتلال، ووُضِعَ على قبره صليب، كما هي العادة عند دفن أي إنسان مسيحي. وفجأة، تطلب السلطات الإسرائيلية من عائلة الجندي القتيل إزالة الصليب، والسبب أن منظر الصليب في مقبرة يهودية يؤذي مشاعر أهالي قتلى جيش الاحتلال حين يزورون قبور أبنائهم. وهنا، لا أعرض القصة كمحاولة لـ«الصيد في المياه العكرة»، أو للدلالة بطريقة رخيصة وساذجة على الفروقات بين العهدين القديم والجديد، لكن، في هذه النقطة، لا يستطيع المرء إلا التساؤل، ليفهم ويستوعب، ففي منطقة كمنطقتنا، حيث السيد المسيح (ع) نبي لا يستقيم الإيمان من دون الاعتقاد واليقين بنبوته، السيد المسيح كنبيٍ للرحمة، حين يوضع اسمه قرب اسم والدته، «عيسى بن مريم» عليهما السلام، يصير عنواناً للعشق، ترق القلوب، اسمٌ مقدسٌ ابن سيدة القداسة، ومن التساؤلات كيف يمكن فهم كل هذا الدم مقابل كل هذا الحب.
في مشهدية الإبادة «اليهوهية» هذه، يصير القتل «فعل فضيلة»، يصير «فعلاً إيمانياً» يُثاب عليه، وينسحب هذا على القاتل/القتلة، وكل هذا في سياق «التقديس»، كأمر إلهي، كمشيئة ربانية يجب القبول بها، ويتحول النقاش حولها إلى نوع من التجديف. قد تبدو الصورة مبالغاً فيها، ولكن، فلنلقِ نظرة على ما يحدث في غزة ولبنان، أو فلتكن غزة المثال الأول، منذ عام وشهرين، وآلة القتل لم تتوقف، أكثر من خمسين ألف شهيد، أطفال ونساء وكبار في السن، وعلى مرأى من العالم أجمع، ولست بوارد الحديث عن المجتمع الدولي ومؤسساته، نحتاج إلى بعض الجرأة للحديث عن المؤسسات الدينية، تلك التي تؤمن بوجود خالق، والتي تسير وتُسيِّر وفقاً لشرائع وأحكام سماوية. الكتب المقدسة في هذه المؤسسات، يُفتَرض أنها كتب الله المقدسة، وهنا لست أتحدث عن المسيحية فقط، أتحدث عن الديانات الرئيسية كلها، ومنها الدين الإسلامي، ماذا فعلت هذه المؤسسات وهذه المرجعيات أمام الإبادة المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني، واللبناني، والتي يرتكبها تحالف الحرب الإسرائيلي الأميركي والغربي؟
المشكلة أن بعضنا يقرأ التاريخ كقصة، حدثت في مكان ما، وربما ليس على هذه الأرض. معظمنا تابعنا بالأمس القريب جرائم «داعش»، ويقين أن قلةً قليلة جداً استطاعت أن تكمل حتى النهاية، مشاهد الجرائم التي بُثَّت على أربع أصقاع الأرض؛ قلوب وأكباد انتزعت، فتيات بيعت في سوق النخاسة بنينوى والموصل وبعض المدن السورية، و«داعش» تلك، التي أُريدَ لها أن تكون «نتاجاً إسلاموياً»، بماذا تختلف عن الداعشية الإسرائيلية الأميركية، الأولى بلباس قادم من التاريخ لتكون أكثر مواءمة لتحقيق الأهداف، ولتثبيت الصورة النمطية، والعنوان المراد حفره في الأذهان «داعش الإسلامية»، وداعش الإسرائيلية الأميركية، إبادية بلباس «حضاري»، بزات وعتاد عسكري هو الأفضل في العالم، وبدلات فاخرة تليق برؤساء دول وحكومات، فماذا اختلف أو يختلف، ونحن كأننا أمام شاشة شاسعة، تعرض فيلماً خيالياً جداً، على أرض واقعيةٍ جداً، فيلماً مبنياً على قصة حقيقية، حيث يمكن اشتمام الدم، يمكن رؤيته ولمسه فوق جثث الضحايا؟
بالأمس القريب، سمعنا كثيراً عبارة «صراع الحضارات أو حوار الحضارات»، هذه الحرب المفتوحة ضد الفلسطينيين واللبنانيين، وجيش القتل والإبادة التي يقودها «يهوه» نتنياهو وشركائه الأميركيين والغربيين، تضعنا وسط ثنائية أكثر أذىً، وأكثر إلغائيةً، محورها الدين، وجدليتها «حوار الأديان أو صراع الأديان»، يبدو معها «مشروع التقارب الإبراهيمي» التطبيعي تافهاً جداً، ومذلاً لكل من سار بركبه، فحجم الدم الذي يسببه حلف الإبادة هذا، وخطابه الإلغائي، واستكباره، كل هذا يقول إنهم لا يريدون قتلنا فقط، يريدون أيضاً قتل أدياننا.
إذاً، ماذا تبقَّى غير الميدان، البعض قد يرى في الطرح فكرةً ساذجة، لكن يكفي أن قادة الحرب في تل أبيب وواشنطن لا يرونها كذلك، ولهذا يطلبون من بعض الداخل ما لم تستطعه جيوشهم، ونحن يكفينا أن في الميدان المفتوح من غزة إلى كل القرى اللبنانية الحدودية، رجالاً يرونه الآن مهبط رسالات السماء، ويعرفون كيف يطعنون الخرافة في القلب ولو لبست «درعاً مقدساً».
محمد المقهور