أقلام الثبات
ثمانية وثلاثون بنداً شكَّلت بيان القمة العربية الإسلامية التي عُقدت مؤخراً في الرياض، ولعل أبرز ما في هذه القمة ليس في بيانها، بل في تواجد كرسيين على أرض المملكة: الكرسي السوري والكرسي الإيراني، وبهذين الكرسيين اكتمل من حيث الشكل والمضمون نصاب هكذا قمة، بصرف النظر عن البيان والمقررات، لأن كل القمم السابقة التي غابت عنها سوريا أو إيران كانت ذات ندوب واضحة، ولذلك اكتسبت الرياض مجدداً الثقة العربية والإسلامية في إعادة اللحمة، وبدت سبَّاقة في إعادة سوريا إلى الحضن العربي، وزفَّت استمرار عقد الصلح مع طهران إلى العالم الإسلامي، والذي تمَّ برعاية صينية في شهر آذار مارس من العام 2023، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير، بمعزل عن البيانات المكررة معظم بنودها من القمم العربية والإسلامية السابقة.
أهمية الصلح الإيراني السعودي أنه أعاد إحياء الاتفاقية الموقَّعة بين البلدين عام 2001، والتي تركِّز على التعاون الأمني وتبادل المعلومات في مجالات مكافحة الإرهاب وضبط الحدود وتبييض الأموال، بما يعني التعاون في إجراءات الأمن القومي لكلا الدولتين الكبيرتين على المستوى الإقليمي من جهة، وعودة الثقة باحترام سيادة كل دولة على أراضيها من جهة ثانية، وانتفاء الشكوك السعودية بأن إيران كدولة نووية تشكل خطراً على جيرانها، وهذا ما زرعته على مدى سنوات كل من "إسرائيل" وأميركا من جهة ثالثة، سيما أن هذه الاتفاقية قد حصلت قبل موجة جنون "الربيع العربي"، وما أنتجته من تداعيات تدميرية من جهة رابعة.
صحيح أن غالبية البنود الثمانية والثلاثين منسوخة طبق الأصل عن قمم عربية وإسلامية سابقة، خصوصاً تلك التي تتناول مركزية القضية الفلسطينية ومناشدة المجتمع الدولي والمنظمات الأممية لتطبيق القرارات الدولية في تحقيق السلام العادل والشامل، وتحديداً في البند الثالث، لكن التطورات الميدانية من غزة إلى الضفة الغربية إلى لبنان، إضافة إلى التداعيات في سوريا والعراق واليمن وإيران منذ عملية طوفان الأقصى، حكمت الواقع السياسي الإقليمي، ودفعت بهذه القِمَّة إلى مقاربة الواقع الراقد على صفيحٍ ملتهب قابل للتمدد عبر حدود "الشرق الأوسط الجديد"، مع ما يستتبع ذلك من انهيار حدود وأنظمة.
ولعل أهم بنود هذه القِمَّة هي من الرقم 22 إلى الرقم 30، والتي تناولت القضية الفلسطينية وحل الدولتين، بما يعني أن كل أشكال التطبيع، سواء كانت تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد" التي عمِل عليها الحزب الديمقراطي في أميركا منذ ولايتيّ أوباما حتى ولاية بايدن، وهي مرفوضة عربياً وإسلامياً، كذلك التطبيع تحت عنوان "وحدة الديانات الإبراهيمية" الذي تحقق في ولاية ترامب الأولى، ولن يجد له مسلكاً في ولايته الثانية، ما لم تقتنع كل من الرياض وطهران بجدوى هذه الوحدة، التي يجب أن يسبقها الإعلان عن دولة فلسطين، سيما أن الرئيس ترامب يبدو أنه يحمل شعار "إنهاء الحروب وعدم البدء بها"، والرياض وطهران ترفضان الحرب الشاملة المجانية في الشرق الأوسط، وكانت هذه المسألة عنوان الصلح بينهما في العام 2023.
ورغم عنف المواجهات الحربية؛ من غزة إلى الضفة إلى لبنان، فإن وقف إطلاق النار هو نهاية حتمية عاجلاً أم آجلاً، بصرف النظر عن طروحات "اليوم التالي" الذي يبدو أنه محكوم بنتائج الميدان العسكري من جهة، والمداولات المطروحة حول مصير سبعة ملايين فلسطيني بين القطاع والضفة، إضافة إلى بحث الوضع المتوازن بين عودة نازحي شمال فلسطين المحتلة والنازحين من الجنوب اللبناني من جهة أخرى.
وقبل أن ينبري المُغالون في تقييم مقررات القِمَّة العربية والإسلامية برؤية تشاؤمية، يكفي أن هذه القِمَّة قد عُقدت في السعودية بحضور إيراني، والكرة الآن ليست في مرمى الرياض، ولا في مرمى طهران، بل هي في مرمى تل أبيب ورام الله وبيروت.
الكرة في مرمى تل أبيب، لأن "الإسرائيلي" يفتقد الأمان في هذه المنطقة ما دام يتظلل بحكومات يمينية متشددة، واستخدام الاستيطان القمعي وسيلة لتهجير الفلسطينيين، مع ما يستتبع ذلك من مواجهات لا تنتهي، سواء بالبندقية والمدفع والصاروخ، أو بالحجر والسكين والدهس.
والكرة في مرمى رام الله، لأن الكيل العربي والإسلامي قد طفح من انقسامات القوى والفصائل الفلسطينية، حتى خلال أصعب محنة يعيشها هذا الشعب منذ العام 1948، وربما آن الأوان وسط التفاهم الإقليمي على دعم حل الدولتين، إلى إيجاد آلية صريحة لبناء وحدة فلسطينية ضمن الحد الأدنى، قبل أن يكفر العرب والمسلمون من جدوى السعي لإقامة دولة فلسطينية.
والكرة أولاً وأخيراً في الملعب اللبناني، الذي بات كما الواقع الفلسطيني من الانقسام إلى قوى وفصائل، وليت هذه "القوى والفصائل" تخفف من العنتريات الفارغة، لأن الحقل اللبناني يحترق، ولا حصاد لأحد من أرض محروقة، وفي الوقت الذي يستضيف فيه السني والدرزي والمسيحي أهلهم النازحين، دون الحاجة إلى إيعاز من القيادات، فإن هذه القيادات مُطالبَة على الأقل بالحد الأدنى من الخطاب الوطني الجامع يشبه الشعب اللبناني النبيل، ونكاد "نستحلفهم" بالرئيس ترامب الذي يدَّعي أنه آتٍ لصناعة السلام، وبِدُعاة السلام من قادة الدول العربية والإسلامية، تخفيف "العنترة" على بعضهم البعض، وعدم الاستعجال في حصاد السنابل أو جني العنب، لأن السنابل فارغة، والعنب جعلوه حصرماً يضرس منه الجميع.