أقلام الثبات
جاء الانقلاب الفاشل في بوليفيا منذ يومين، فيما أصداء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية ما تزال تتردد في عواصم العالم، حيث عقد مع رئيسها كيم جونغ أون اتفاق دفاع مشترك، في ما يمثل أقوى علاقة بين موسكو وبيونغ يانغ، منذ نهاية الحرب الباردة، في وقت يتعرض الطرفان لمواجهات متصاعدة مع الغرب.
وتكمن خطورة الحدث البوليفي، الذي يوجد شبه إجماع لدى المراقبين، على وقوف المخابرات الأميركية خلفه، أنه يعيد إلى الأذهان الصراع الروسي - الأميركي في ستينيات القرن الماضي؛ عندما كادت أزمة الصواريخ الكوبية تشعل حرباً نووية بين الجبارين العالميين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، إذ تخطت تلك الأزمة في خطورتها ورمزيتها، كلاً من أزمة السويس (1956) وحرب 1967، اللتين تُعتبران إحدى أكبر المواجهات في الحرب الباردة. وحالياً، تعتبر حرب أوكرانيا وكذلك التدخل الروسي في سورية، من مقدمات عودة الحرب الباردة، ففي أوكرانيا تقاتل روسيا مرغمة دفاعاً عن بوابتها الشرقية، في وجه التدخل الغربي فيها. وفي سورية أفشل التدخل الروسي مشروعاً غربياً لتقسيمها والهيمنة عليها، والحاقها بطابور البلدان العربية الزاحفة للتطبيع مع العدو "الإسرائيلي". أما في بوليفيا، فما جرى من انقلاب فاشل يمكن اعتباره ردا اميركيا سريعاً على زيارة بوتين الى كوريا الشمالية وانتقاله منها إلى فيتنام، التي ما يزال يحكم فيها حزب شيوعي، وما أدراك ماذا تعني فيتنام للذاكرة الأميركية من فشل وهزيمة وجرائم حرب، وهذا الرد الأميركي سيستدعي رداً روسيا لا يمكن التكهن بمكانه وزمانه، ودول أميركا اللاتينية تعودت أن تشهد "لعبة قط وفار"، بين أميركا واليسار، الذي يحكم معظم دولها التي تسعى للتحرر من الهيمنة والتسلط الأميركي وتحرير ثرواتها من شركات النهب الأميركية، فأميركا وقفت طوال العقود الماضية خلف الانقلابات العسكرية ضد المناهضين لسياساتها في اميركا اللاتينية، والانقلاب الفاشل في بوليفيا جاء في توقيته وفي طروفه بعد خلافات اميركية بوليفية، وكذلك بعد ان قطعت بوليفيا علاقاتها بالكيان "الإسرائيلي" رفضاً لجرائمه بحق الشعب الفلسطيني.
وكان مصطلح الحرب الباردة قد أُطلق على الصراع الهائل الذي نشب إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، بين الكتلتين الشرقية والغربية، على من يدير دفة العالم، إذ بعد نهاية تلك الحرب والقضاء على النازية، بعد هزيمة ألمانيا، برزت اصطفافاتٌ جديدةٌ بين الدول التي تحالفت ضد المانيا - هتلر، في معسكرين جديدين خاضا حرباً من نوع آخر، هي الحرب الباردة، وهذان المعسكران هما المعسكر الشرقي، بقيادة الاتحاد السوفياتي، الذي انضوت دوله الاشتراكية تحت لواء "حلف وارسو"، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والذي انضوت دوله الرأسمالية تحت لواء "حلف الناتو"، الذي أعلن أن أهدافه تتلخص في الدفاع عن أوروبا الغربية ضد الاتحاد السوفياتي، الذي كان يشكّل قوّةً ضخمة، حيث وصلت قواته إلى برلين، ووجّهت ضربة قاضية لنظامها النازي، بعد أن طردت جيشه المدجَّج بمختلف أنواع الأسلحة من داخل أراضيها.
ولا ينسى العالم نزول الدبابات الروسية في بودابست عام 1956، لمواجهة خطر انتزاع المجر من الشرق وضمها للغرب، كما لا ينسى اجتياح قوات سوفياتية وبولندية ومجرية وبلغارية، براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا، ليلة 21-20 آب/ أغسطس عام 1968، للقضاء على ما رأوا فيه خروجاً عن نفوذ موسكو، حيث بقيت القوات السوفياتية هناك حتى العام 1991.
لكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد "حلف وارسو"، كان من المفترض انتفاء الأسباب التي تأسّس من أجلها حلف شمال الأطلسي "الناتو"، في عام 1949، عندما وقّعت 12 دولةً معاهدة شمال الأطلسي، في العاصمة الأميركية واشنطن، لكن حلف "الناتو" لم ينحل، بل أصبح عدد دوله 29؛ وواصل توسعه لحصار روسيا وضم الدول التي كانت تعاديه بوجودها في حلف "وارسو"، مثل تشيكيا وسلوفاكيا (اللتين كانتا تشكّلان دولةً واحدةً هي تشيكوسلوفاكيا)، وألمانيا الشرقية (التي اندمجت بألمانيا).
ومن الواضح أن هدف اميركا وحلف "الناتو" هو القضاء على بقايا حلف "وارسو" وتفكيكه تماماً، وهذا ما حدث ليوغوسلافيا، التي تفككت بتأثير تدخلات "الناتو" إلى دول عدّة، اثنتان منها هما سلوفينيا ومقدونيا، انضمتا لاحقاً إلى "حلف الناتو"، الذي واصل توسعه إلى حدود روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفياتي، فكان الرد الروسي عبر التدخّل العسكري السريع والحاسم في جورجيا عام 2008؛ والمشاركة المستمرة منذ عام 2015، في العمليات العسكرية الجارية في سورية، ضد التنظيمات الإرهابية المدعومة من الغرب، فيما كان للولايات المتحدة حربها في افغانستان والعراق وتدخلها المباشر في شمال شرق سورية، واستنفارها لأساطيلها دفاعاً عن "إسرائيل" عقب عملية طوفان الأقصى الفلسطينية.
وإذا كان "الناتو" مستمراً في حروبه، فإن الروس استعاضوا عن حلف "وارسو" بمعاهدة طشقند، أو "معاهدة الامن الجماعي" بين روسيا وكازاخستان وارمينيا وقيرغيزستان وروسيا البيضاء وأوزبكستان وطاجيكستان، الموقعّة في 15-5-1992؛ والتي انبثقت عنها "منظمة معاهدة الامن الجماعي" في 2002.
كما متنت روسيا علاقاتها مع الصين، التي قال وزير خارجيتها وانغ يي، في يوم ليس ببعيد إنه "إذا وقفت بلاده كتفاً بكتف مع روسيا، فإن البلدين معاً قادرتان على ضمان النظام العالمي وصد ضغوط الدول التي تسعى للهيمنة على العالم".
كذلك متنت روسيا علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لتشكل مع الصين وإيران وكوريا الشمالية وباقي الدول الرافضة للهيمنة الأميركية والغربية في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، محوراً عالمياً ممتداً ينذر باشتداد الصراع وبحماوته وتراجع الأحادية القطبية الأميركية، الذي سينعكس تأثيره في دحر العدوانية الصهيونية في فلسطين.
انقلاب بوليفيا الفاشل: اشتعال الحرب الباردة ــ عدنان الساحلي
الجمعة 28 حزيران , 2024 11:39 توقيت بيروت
أقلام الثبات
مقالات وأخبار مرتبطة