غادة عون.. العدالة التي تزلزل "الكراسي" ــ أمين أبوراشد

الثلاثاء 11 حزيران , 2024 08:54 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

في واحدة من آخر تغريداتها، كتبت القاضية غادة عون: "هيدا البلد ما بيستاهل عدالة، هيدا البلد بيستاهل نظام مافياوي يمسك بكل مقدراته، أمام هول ما حصل، أمام التطاول الوقح على قاضٍ يحاول رفع الظلم وتطبيق القانون، ما شفت إلا تويتات، إيه مبروك عليكم هيك نظام.. محاربة الفساد ما عاد لها معنى، أنا تاركة أقله ضميري مرتاح.. فمبروك عليكن".

هذه التغريدة ذكَّرتنا بالتغريدة التي كتبتها عون في العام 2022، وأوردت فيها بالأسماء كل الذين هرَّبوا أموالهم إلى الخارج، وسارعت إلى محوها لاحقاً، لأنها جاءت كما القنبلة التي كانت كافية وحدها لتطيير الرؤوس الكبيرة التي تندرج تحت مسمى منظومة الحكم في الدولة العميقة.

غادة عون جاءت إلى القضاء ربما في غير زمانها، واعتقدت أن رهبة الحق تحت قوس العدالة تحميها، لكنها لم تَنَل سوى "تويتات" على حد قولها، جاءت كما الرئيس ميشال عون إلى حربٍ لا تمتلك كامل أسلحتها، لمواجهة ملفات خطيرة حيث يتمادى أصحابها في تقويض المؤسسات الرسمية لنفعهم الشخصي وتنفيع أزلامهم، وبشكلٍ خاص رجال المال والأعمال والمصارف، ولو أنها أنِفَت أخيراً من أسانة مياه المستنقعات، خاصة في أربعة ملفات أساسية تنصَّل منها بعض القضاة، ويتداول عناوينها الرأي العام اللبناني: "النافعة"، و"رياض سلامة"، و"مكتف" و"أموال المودعين".

وكي لا نُدخِل القارئ في لعبة الأرقام والتحويلات والتهريبات، وكل ألاعيب رياض سلامة وشركة مكتف والمصارف، التي حاولت القاضية غادة عون اقتحام دهاليزها، وبالتالي، هذه الجرأة جعلت منها هدفاً مشتركاً لهذه المافيا التي نهبت أموال المودعين، ونكتفي هنا بمثال عن إحدى مغاور النهب في الدولة اللبنانية، والتطرق فقط إلى الفضائح التي كشفتها عون عن ما تسمى "النافعة" أو مصلحة تسجيل المركبات والآليات، حيث النفع الحرام والانتفاع العام لكبار السماسرة وصغارهم، من رتبة وزير إلى مدير وصولاً إلى أبسط خفير.

في السنة الأولى لانتخابه عام 1998، نزل الرئيس إميل لحود على شكل "كبسة" إلى النافعة في الدكوانة، وقال فور وصوله: هذه أكبر مغارة نهب وفساد في الدولة، ومرَّت إحدى وعشرون سنة على "كبسة" لحود، ووضعت القاضية غادة عون يدها على هذا الملف في عهد الرئيس ميشال عون عام 2019، واستجوبت مَن استجوبت، وسجنت مَن سجنت، وأقصت مدراء وموظفين من مراكزهم، وألزمت وزارة الداخلية بتسليم هذه "المغارة" إلى ضباط في قوى الأمن الداخلي لكن ما الذي حصل في هذه المصلحة بكافة مراكزها لغاية الآن؟ لا شيء سوى تعقيد حياة المواطن اللبناني أكثر فأكثر، واستُهدِفت غادة عون، وهُوجِمت في مكتبها لأنها دخلت "هيكل التجار والسماسرة"، ولا حاجة بنا لشرح أوضاع هذه النافعة حالياً، ما دامت وزارة الداخلية عاجزة عن إجراء مناقصة لتلزيم محطات المعاينة الميكانيكية المقفلة منذ سنتين، ومنذ العام 2019 لم يبقَ منتفع من النافعة إلا وسدد سهامه إلى نحر "العنيدة غادة عون"، وتدخلات سافرة من سياسيي هذه المنظومة، يتناتشون الملفات من بين يديها ويحيلونها إلى قضاة آخرين،  ومن أيدي بعض القضاة تُحال إلى جوارير "اللفلفة" و"الضبضبة" كما كل الملفات الفاضحة في الدولة اللبنانية.

لم تُسقطهم غادة عون عن كراسيهم، ولكن أسقطتهم على كراسيهم، التي باتوا جزءاً من خشبها؛ من السوس المتغلغل داخلها، ومن العفن المقزز شكلاً ومضموناً، لمؤسسات دولة يشغلها بعض عديمي الحياء، الذين ينتظرون الخبز من الغير، والكرامة من الغير، والسيادة من الغير، وبات تعيين ناطور لهذا البلد القاصر يلزمه لجنة خماسية، ويلزمه جان إيف لودريان، وتلزمه قطر والمملكة السعودية ومصر والأمم المتحدة وكل أمم الكون!

ولم يكفِ هذه المنظومة في لبنان أنها في الخارج ذات سمعة سياسية قاصرة، ومالية فاسدة، والحاكم المصرفي السابق مطلوب استجوابه في أكثر من دولة أوروبية بتهمة تبييض أموال، ومنها فرنسا وسويسرا وألمانيا ولوكسمبورغ، وتُحارَب غادة عون في لبنان على خلفية ملفاته، وهو يتنقل بحماية أمنية بإيعاز من شركائه في المنظومة.

ومع استمرار الضغط على القاضية عون والتضييق عليها من جهات حكومية وقضائية لمنعها من ممارسة واجباتها ومسؤولياتها، هددت بالاستقالة، وتحرَّك وزير العدل هنري الخوري أخيراً، وأعلن أنه في إطار ما يحصل بين النيابة العامة التمييزية بشخص المدعي العام بالتكليف جهاد الحجار، والنائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون، سيقوم بدوره في هذا المجال، بعد أن بلغت الأمور بالقاضية عون للتوجه إلى مجلس شورى الدولة، والطعن بقانونية القرار الصادر عن رئيس مجلس القضاء الأعلى بتكليف حجار بمهام مدعي عام التمييز، وبقانونية التعميم الصادر عنه بحقها وإقصائها، وكانت زلَّة قلم من الرئيس ميقاتي بتعميم قرار الإقصاء، وردّ ناري من القاضية عون جاء فيه: ‏"لا يا حضرة رئيس الوزراء، هذه الاستباحة للدستور غير مقبولة، هناك فصل سلطات، ولا يحق لك إرسال هذا الكتاب للإدارات، لا يحق لك مخالفة المادة ٧ من القانون رقم 206/ 2022، لحماية نفسك أو أي شخص آخر، أنت تخالف القانون صراحةً وهذا يعرِّضك للملاحقة".

المؤسف أن "أزمة القاضية غادة عون" اتجهت كما كل الأزمات اللبنانية؛ إلى "التدويل"، إذ أشار "المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان"، عبر بيان نشره على حسابه الخاص على منصة "إكس"، إلى أنه في أسبوعٍ واحد أكدت ثلاثة أعمال رئيسية خضوع الجسم القضائي اللبناني إلى السلطة السياسية الفاسدة الموجودة.

المحامي والناشط السياسي وديع عقل تطرق في تغريدة ذات صلة بالمرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان، الى قرار رئيس الهيئة الاتهامية القاضي حبيب مزهر الانسحاب من التحقيق في قضية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، رغم الشكوك القوية في تبييض الأموال، ومذكرتي الاعتقال الدوليتين بحقه، إضافة الى طلب محكمة الاستئناف تحويل القاضية هيلانة اسكندر الى التفتيش على خلفية "المراجعات القضائية"، لأنها تجرأت على دعوة مختلف السلطات القضائية للمضي قدماً في قضية رياض سلامة، وذلك في إطار دورها كممثلة للدولة، ثم جاء قرار القاضي جمال حجار كما  القشة التي قصمت ظهر البعير على حد تعبير المحامي عقل، بالأمر الذي أصدره حجار إلى الشرطة القضائية بعدم تنفيذ أوامر المهمة الصادرة عن القاضية عون، التي تواصل تحقيقاتها في قضايا اختلاس مليارات الدولارات من قبل شركات قريبة من رياض سلامة.

ويرى المرصد أن التعليمات التي أصدرتها القاضية غادة عون، استناداً إلى تقرير المحاسبة الجنائية "ألفاريز ومارسال"، بدأت تُظهر خيوط مهمة يمكن أن تطال مسؤولين في الدولة اللبنانية، ومن هنا جاء قرار القاضي حجار بحق القاضية عون، لكن زلزال كراسي منظومة الفساد أتى من الخارج الأوروبي هذه المرة، والحلّ لم يعُد بأيدي منظومة السياسة والسلطة في لبنان بعد هذا "التدويل"، بل يبقى في جعبة كل قاضٍ يشبه غادة عون.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل