مقالات مختارة
– في البداية تأكيد على أن الاختلاف في الرأي وتقدير الموقف مع الأصدقاء يختلف عنه مع الخصوم والأعداء. وفي الداخل اللبناني لخيار المقاومة أصدقاء وخصوم وأعداء، والأعداء هم العملاء الذين يتلقون تعليمة من خارج معادٍ ويعملون بموجبها، ولأننا لا نعلم من هم بين صفوف الخصوم، فيبقى الأمر بين خصوم قرروا أن اللبن أسود إذا قالت المقاومة إنه أبيض، فلا جدوى من نقاشهم. بل ربما مزيد من الضرر بمنح من يرغب منهم فرصة السجال لصناعة توتر وافتعال عناوين طائفية ومناطقية وحزبية له، ومقابلهم أصدقاء ليسوا كلهم على قلب رأي واحد، ومنهم من يختلفون في الرأي، فماذا عن هؤلاء الأصدقاء، حتى لو كان خطابهم مصدر صدمة غير متوقّعة. هل نتوقف عن محاورتهم؟ وإن فعلنا ذلك بداعي أن الأحداث سوف توضح لهم خطأهم، وتوضح صواب موقف المقاومة، أليس الحوار وإظهار المنطق والحجة تمهيداً لفعل الوقائع، ووصل يبقى معه الود جسر طريق الرجعة. وإذا لم يكن التيار الوطني الحر ورئيسه النائب جبران باسيل، هما الصديق الذي نختلف معه ويجب علينا حواره فمن يا تُرى عساه يكون؟ وإذا عجزنا عن إدارة الخلاف معه بالحوار فمع من نستطيع فعل ذلك؟ أليس الحوار مع الصديق لوقت الضيق؟ وما حاجتنا للحوار في أيام عز الاتفاق؟
– يتركّز منطق النائب باسيل على خمس نقاط، الأولى هي التميّز عن الذين يناصبون المقاومة العداء ويهدّدون بلسان العدو بالحرب ويحدّدون لها مواعيد، فيقول “مَن ينتظر أن تضرب «إسرائيل» لبنان معروف ومكشوف وكل شهر يحدّد موعدًا جديدًا، والآن حدّد موعدًا جديدًا هو 15 نيسان لتضرب «إسرائيل» بيروت وهو «مبسوط» وناطر ويتأمّل بعودة الحرب لينزل ببواريده على الأرض… هؤلاء يكشفون أنفسهم ويرذلهم الناس من دون أن نحتاج للقيام بشيء»، وهذه تُحسب له لا عليه. والنقطة الثانية هي دعوته لحصر المقاومة لأدائها العسكري بما تظلله وحدة داخلية تحت عنوان التصدّي للعدوان حال حصوله، فيقول «طالما متفقون على أننا جميعًا ضد «إسرائيل» وأننا جميعًا مع المقاومة ضد «إسرائيل» إذا اعتدت على لبنان، فلماذا نخسر هذه القيمة الكبرى؟». ويستنتج من الثانية ثالثة راهنة، هي الدعوة للخروج من حرب غزة، وفيها رفض واضح لوحدة الساحات، حيث يقول»لسنا مجبرين على أن نبقى منجرّين الى حرب في غزة لا نعرف متى تنتهي ولا نعرف حجم انعكاسها ونتائجها على لبنان ولا نعرف الثلاثمئة شهيد هل يصبحون ثلاثة آلاف وسبعمئة بيت مدمّر بشكل كامل، هل يصبحون سبعة آلاف والخمسة آلاف بيت مدمّر جزئياً هل يصبحون خمسين ألفًا! فماذا ننتظر؟ هل ننتظر لنتأكد من إجرام نتنياهو أم نحافظ على معادلة القوة والردع ونبني عليها ونعزّزها؟ وهل نربط أنفسنا بصراعات ليس لنا فيها وكلفتنا أثمانًا كبيرة ونمدّدها؟ ونمددها من اجل مَن؟ ولصالح مَن؟». ثم يصعّد موقفه بناء على هذا العرض ليستخلص بصورة مثيرة نقطة رابعة مضمونها الفعلي أن المقاومة ضمنًا تخدم نتنياهو باستمرارها في جبهة الإسناد لغزة، فيقول «كل اللبنانيين اليوم لا يريدون الحرب في لبنان… فليقل لي أحدٌ إنه يريد الحرب! وأميركا وإيران لا تريدان الحرب في لبنان! هناك نتنياهو يريدها… فهل نعطيه إياها ليقتل ويدمر أكثر؟ أم ننتهج سياسة تفصل لبنان عن غزة ونطالب بوقف إطلاق النار في لبنان؟»، أما النقطة الخامسة والأخيرة فهي الجزم بأن الحديث عن النصر في هذه الحرب مجرد وهم، أو على الأقل التشكيك بإمكانيّة تحقيق نصر ببلد منقسم مأزوم، فيسأل «لا أعرف كيف يمكن أن ننتصر على «إسرائيل» ودولتنا منهارة واقتصادنا بالأرض ومؤسساتنا متحللة ووحدتنا الوطنية مهددة وشراكتنا على المحك».
– في الأولى والثانية نحن متفقون، الذين يناصبون المقاومة العداء على حساب الوطن مكشوفون ومعروفون ولا جدوى من سجالهم، والمطلوب أوسع إجماع وراء المقاومة للدفاع عن لبنان في مواجهة خطر العدوان، والحفاظ على نسبة الوحدة المحققة على هذا العنوان. فلندخل إلى النقطة الثالثة، وهي السؤال حول ما إذا كان فتح جبهة الجنوب لإسناد جبهة غزة يزيد من خطر الحرب علينا أم يضعفه. وهذا هو جوهر الخلاف الذي يظلل موقف باسيل في النقاط الثالثة والرابعة والخامسة، فإن ثبت أنه يجعل خطر الحرب أبعد، صارت وحدة الساحات، وربط تهدئة جبهة الجنوب بوقف الحرب على جبهة غزة خطوة نحو منع وقوع الحرب مطلوبة، وليست مغامرة عبثية. وصار السؤال عمن يريد الحرب، وكذلك اعتبارها مطلبًا للعدو ومصلحة له، حافزًا لمنع هذه الحرب، ولكن كيف؟ عبر الابتعاد عن جبهة غزة أم المزيد من الاقتراب منها، بمواقيت ومقادير محسوبة، يصحّ فيها توصيف نصف الحرب، وحصر النقاش في سؤال، هل نصف الحرب طريق حتميّ ساذج وعاطفي أو عقائدي، لكنه غير محسوب، نحو الحرب، أم أن نصف الحرب هو وصفة استراتيجية ذكية لمنع وقوع الحرب، وإذا ثبت ان نصف الحرب وصفة لمنع الحرب، يصبح نتنياهو ساعيًا للحرب والمقاومة تداويه بنصف حرب لا يريدها، فتسقط النقطة رابعًا، ويصبح الربط بغزة بنصف حرب مطلبًا لكل الذي لا يريدون ان يروا لبنان في قلب الحرب، فتسقط النقطة ثالثًا. فهل جعل نصف الحرب الحرب أقرب أم هي خطة لمنع وقوعها؟
– انزعاج الأميركي بصفته الراعي الأبرز للحرب، والإسرائيلي بصفته صاحب الحرب، من جبهة لبنان واضح ولا جدال عليه. وجوهر الانزعاج هو أنه في حال نصف حرب، يريد الأميركي إعادتها الى حال اللاحرب وهذا واضح ومعلن من اليوم الأول مرفقًا بالتهديد وجلب حاملات الطائرات، والإسرائيلي الذي لا يمانع بوقفها وقفًا كاملًا، يهدد بأخذها لحرب كاملة لأنه لا يطيق التعايش معها كنصف حرب. فماذا تعني حال نصف الحرب وما هي فلسفتها؟ والجواب هو أن الأميركي والإسرائيلي قد وضعا كل ثقلهما للقضاء على المقاومة في غزة. وهما يبيّتان للمقاومة في لبنان نية الحرب، من ضمن منهج واضح معلن، يقوم على قناعة بأن وجود وقدرات هذه المقاومة يعطّلان مشروع الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، سواء عبر صفقة القرن أو مشروع التطبيع أو سواهما، وأن جوهر النقاش الأميركي الإسرائيلي، والإسرائيلي الداخلي هو توقيت الحرب على لبنان، أثناء حرب غزة أم بعد الفوز بها. وقد حسم النقاش لصالح تأجيل هذه الحرب لما بعد النصر في حرب غزة. وبمنطق الحرب قامت نصف الحرب المتحركة في مدى النار وسعة الجغرافيا وسقف التهديد، بجعل النصر على غزة أصعب وأعقد وأبعد، فجعلت بلوغ لحظة شن الحرب على لبنان أصعب وأعقد وأبعد. وما ينطبق على جبهة لبنان ينطبق على جبهة اليمن وجبهة العراق، وجمع الجبهات، أي وحدة الساحات، قدم خدمة جليلة للمقاومة في غزة، لكن خاضت كل جبهة معركة إبعاد خطر الحرب عنها أيضًا.
– لا يقبل ساذج أن يصدق بأن الحروب تخاض للانتقام فقط. فالدول خصوصًا مثل أميركا تخوض الحروب ضمن تصور وخطة، ولدى أميركا تصور وخطة للمنطقة تندرج حرب إنهاء المقاومة في غزة ضمن توفير شروط نجاحها. ومعلوم أن لا مكان لبقاء المقاومة في لبنان في هذه الشروط، والفارق هو التوقيت، بين وحدة ساحات على الطريقة الأميركية الإسرائيلية، عبّرت عنها المواقف الأميركية بعدم توسيع جبهات الحرب، والأصح، جبهات أنصاف الحروب، لتوفير فرص نموذجية للنصر في حرب غزة، ثم بعد هذا النصر، ولتحقيق المشروع الذي يقف وراء السعي للنصر في حرب غزة، الاستدارة نحو جبهة أخرى، هي على الأرجح لبنان بدرجة الأهمية، بذات منطق ومعادلات منع توسيع جبهات أنصاف الحروب حتى الانتصار فيها، والاستدارة نحو جبهة ثالثة. وواضح أن جبهات أنصاف الحروب قد عقدت وعطلت فرص النصر في حرب غزة، بأنها أضافت إلى المعضلات التي تسبب بها الطوفان، مثل قضيّة الأسرى، معضلات مثل قضية مهجري شمال فلسطين والملاحة في البحر الأحمر، وربطت حلها بوقف الحرب على غزة، ومنحت المقاومة في غزة دعمًا معنويًا وماديًا عبر تأكيد أن غزة ليست متروكة لقدرها المحتوم، أو عبر جذب جزء هام من القوة التي يمكن لها أن تنصرف نحو غزة لتغطية حاجات جبهات أخرى، خصوصًا جنوب لبنان والبحر الأحمر، وفعلا يصير الجواب سهلا على سؤال «ماذا لو استمرت حرب غزة أكثر وزادت كلفة نصف حربنا أكثر؟». والجواب هو «تصير الحرب أكثر بعدًا وتضحياتنا في نصف الحرب تبقى أقل بكثير من كلفة الحرب الكاملة»، أما إذا وقع المحظور وسقطت غزة أو صارت قيد السقوط، فإن ذلك يفتح الطريق للحرب لكن مع فارق، ان تشنها المقاومة لمنع السقوط وتكون حربًا متعددة الجبهات تحول دون الاستفراد، أو يشنها العدو فتكون حربًا دون عنصر المفاجأة. والاستفراد والمفاجأة نصف حرب الآخر، اما اذا جاء العدو للحرب في قلب حرب غزة غيظًا وغضبًا فيكون قد جاء الحرب بلا ثلاثة لا تقوم بدونها حرب، المفاجأة وتجهيزات الاستعلام والتتبع والترصد التي يتم تدميرها على مدار الساعة، وجهوزية القوات التي وضعت تحت ضغط النار على مدار الساعة أيضًا.
– كلنا لا نريد الحرب ونتنياهو هو مَن يريدها، وكلنا نريد للمقاومة أن تبقى قوة ردع تمنع الحرب عن لبنان وتدافع عنه عند تعرّضه للعدوان، لكن النقاش هو حول ما إذا كان نصف الحرب الذي تخوضه المقاومة من جنوب لبنان هي جزء من مفهوم الردع لإبعاد خطر الحرب، والدفاع الاستباقي لمنع وقوع العدوان، أم أن نصف الحرب يفتح باب الحرب ويبدد قوة الردع؟ وما تقوله الشهور الستة من حرب غزة، يرجح المنطق الذي تقوله المقاومة بأنها تقوم بتظهير بعض قوة الردع للحفاظ على إجمالي هذه القوة ومنعا للحرب، وهذا هو سبب الغيظ من نصف الحرب، لأن الأميركي والإسرائيلي يريدان اللاحرب حتى ينتهيان من غزة، ونتنياهو يريد الحرب إذا تعذر فرض حال اللاحرب، لأنه يضيق ذرعًا بحال نصف الحرب، التي ابتكرتها عبقرية المقاومة. وربما يكون ذلك أشبه بما يتعلمه الكشافة من طرق إطفاء الحريق، بإشعال نصف حريق، عندما يشتعل أحد أطراف الغابة، عليك باختيار مقطع طولي من الغابة حيث الأشجار أشدّ يباسًا وحفر الخنادق خلفها ثم إحراقها بحيث تضمن، أنه عندما يصل الحريق الكبير اليها سوف ينطفئ لأنها قد احترقت وما عادت سبيلاً لامتداد الحريق. ومن يمنع الكشافة من إشعال نصف الحريق يخدم امتداد الحريق لإشعال الغابة كلها لا وقف الحريق، أليس من حقنا القول إن وقف اطلاق نار في لبنان وفصله عن جبهة غزة يحقق للأميركي والإسرائيلي مطلبهما بحرب «نظيفة» على لبنان بعد التخلص من غزة، حيث يصبح التخلص من غزة أسهل والعودة نحو لبنان بمعنويات المنتصر أقوى؟
– أما وان أوان النقاش في دخول نصف الحرب ام عدم دخولها قد فاتت عليه ستة شهور، فإن الدعوة الآن لفك الارتباط بجبهة غزة والخروج من نصف الحرب إلى اللاحرب، تحت عنوان وقف إطلاق النار على جبهة لبنان، تعني شيئًا واحدًا هو التراجع، أي الاستجابة للضغوط الأميركية والإسرائيلية التي تريد استبدال نصف الحرب باللاحرب، بانتظار رؤية ما يذهب إليه الوضع على جبهة غزة، وهذا يعني شيئًا واحدًا، هو القول الأميركي والإسرائيلي إن الضغط السياسي والاقتصادي والدبلوماسي من جهة، والتهديد بالحرب الكاملة من جهة موازية قادران على فرض التراجع على المقاومة ولبنان، وإن الطريق نحو مزيد من الضغط من جهة والتهديد من جهة موازية سوف ينتجان المزيد من التراجعات. وهذا له معنى واحد في علم الاستراتيجية هو سقوط قدوة الردع التي يريد الصديق باسيل الحفاظ عليها بالتأكيد.
– الوقوف وراء المقاومة في نصف الحرب، هو ترجمة رفض الحرب، ولأن العدو مأزوم، فإن أضعف الإيمان هو مطالبة الأصدقاء، الذين لا يتحدثون بخلفيات إلحاق الأذى بالمقاومة كما يفعل الذين يتربّصون لها، أن يضعوا في حسابهم أن إحدى قواعد احتساب العدو لنضج شروط الحرب، هي قياس درجة التضامن الداخلي مع المقاومة، من ضمن شروط أخرى طبعًا، لكن هذا يعني سياسيًا ضرورة التحدث عن قضايا الخلاف بطريقة تأخذ بالاعتبار قطع الطريق على فهم الخلاف تعبيرًا عن ضعف التضامن الداخلي مع المقاومة، ولذلك لا يضير عند عرض الخلاف أن تبقى هناك لازمة مكررة، ولو من باب تأكيد المؤكد، بالقول، ونحن الذين نختلف مع المقاومة على هذه النقاط نقول للعدو إنه في حال فكر بالحرب على لبنان، فإن عليه ان يضع في حسابه أن هذه الخلافات كلها تسقط واننا سوف نكون جسدًا واحدًا يقاتله ويقف وراء المقاومة بلا شروط.
– تبقى النقطة الخامسة الجدلية في خطاب باسيل، حول فرضية النصر في بلد منقسم وضعيف. وهنا تظهر اشكالية عربية وليست لبنانية فقط، وهي أن اضعف العرب وأكثر بلادهم انقسامًا وضعفًا هي التي تحقق الانتصارات، من لبنان الذي فرض الانسحاب عام 85 على الاحتلال من نصف لبنان تمامًا، وهو في أسوأ ايامه على صعيد الوحدة والقوة والتعافي السياسي والاقتصادي، وصولًا الى نصر تموز 2006 في أيام شديدة السوء سياسيا واقتصاديا وأكثر تعبيرا عن الانقسام، وصولا الى اليمن المدمر الجائع والمشتعل في حرب داخلية وإقليمية، يقدم ملحمة لصمود ينتصر لغزة وربما ينهي حربها، ويفتح الباب لنهايات حروبه، وغزة نفسها، الأسطورة التي غيّرت وجه المنطقة وربما وجه العالم، وهي سجن كبير ومقبرة كبيرة، لكنها تنتصر، بشهادة ما فعلته على مساحة العالم لقضية فلسطين، ونظرة بسيطة على الدول العربية المتماسكة والممسوكة والمرتاحة اقتصاديًا والوازنة سياسيًا، تقول إن لا نصر على يديها يتحقق ولا فاعلية لها تذكر. وهذا لا يعني طلب استمرار الأزمات والانقسامات، بل دعوة للتمعن في مقولة مغرية ببديهيتها، وهي أن التعافي الداخلي السياسي والاقتصادي شرط لتحقيق النصر، بينما الواقع يقول إن حال الانقسام والضعف إن لم تكن شروط تحقيق النصر، فهي ليست حائلًا دون تحقيقه على الأقل.
– هذه كلمات صادقة من موقع الصداقة.
ناصر قنديل ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً