مقالات مختارة
في عام 1979، بعد انتصار الثورة الإيرانية، دعت طهران إلى الاحتفال بيومٍ للقدس في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، على أن يكون هذا اليوم مناسبة سنوية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ولإعلان رفض احتلال "إسرائيل" للأراضي العربية.
حينها، استقبل عموم العرب والمسلمين الدعوة، التي وقف خلفها المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آنذاك، روح الله الخميني، باهتمامٍ بالغ، لسببين:
الأول متعلق بمركزيّة القضية الفلسطينية ذاتها، والوعي بأن نهضة المنطقة بأسرها مرتبطة بصورة أساسية بالتخلص من الاحتلال الإسرائيلي، والتحرر من التبعيّة للقوى الغربية، والتي تمثل بدورها الدعم الأكبر لـ"تل أبيب".
الثاني، أن الدعوة جاءت لتؤكد هوية "إيران الجديدة"، ولتثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن طهران، بعد أن حررتها دماء الشهداء من حُكم الشاه محمد رضا بهلوي، الذي قاد نظاماً ديكتاتورياً ملكياً وجمعته بـ"إسرائيل" علاقات أمنية واقتصادية قوية، ستكون في صف قضية المقاومة، وستتخذ كل الوسائل الممكنة لدعم تحرير المنطقة من دنس الاحتلال.
ارتباكٌ صهيوني بعد تزايد الاهتمام بيوم القدس
على مدار 45 عاماً، تم إحياء يوم القدس العالمي في عدد من العواصم العربية والإسلامية، وكان اتساع رقعة الإحياء على المستوى الشعبي، عاماً تلو الآخر، يصيب العدو الصهيوني بخيبة أمل واسعة، ويسُدّ أمام قادة الاحتلال أي أفق لتطبيع العلاقات مع شعوب المنطقة، حتى إن نجحوا في إقامة علاقات محدودة ببعض الأنظمة.
الانزعاج الصهيوني من تزايد الاهتمام بيوم القدس لم ينبع فقط من كونه حدثاً سنوياً تعود فيه قضية فلسطين إلى الواجهة، بل يأتي أيضاً من أن اليوم صار دليلاً على انجذاب الشعوب الإسلامية إلى فكرة المقاومة، في حدّ ذاتها، فلم تعد المناسبة مقتصرة على التذكير بأوجاع الشعب الفلسطيني وآلامها، بل تعدّت ذلك إلى الولاء لمشروع التحرير ذاته، وآليات تحقيق ذلك من اللكمة والحجر والسكين حتى البندقية والمُسيّرة والصاروخ.
فطهران هي مهد الدعوة وراعيتها حتى الساعة، وهو أمرٌ يدفع بدوره الجموع التي تشارك في إحياء يوم القدس إلى الانخراط في ميادين المقاومة، في مختلف ساحاتها، من دمشق إلى صنعاء، ومن المنامة حتى غزة، ومن بغداد وصولاً إلى جنوبي لبنان. وكلما اتسعت رقعة المحور المقاوم، واكتسب أنصاراً جُدداً، شعر الإسرائيلي بالخطر، وبدنوّ أجل كيانه.
يوم القدس 2024.. بين المقاومة والتضحيات
يكتسب إحياء يوم القدس هذا العام زخماً مضاعفاً، بحكم أنه يأتي في وقتٍ يتعرض قطاع غزة لعدوانٍ إسرائيلي غاشم منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، نجم عنه أكثر من 33 ألف شهيد، بالإضافة إلى تدمير نحو 62٪ من المباني السكنية، بحسب وكالة الأونروا.
كما أن الحدث يأتي بعد أيامٍ قليلة من استشهاد عدد من المستشارين الإيرانيين في القصف الجوي الإسرائيلي، الذي طال القنصلية الإيرانية في دمشق، وهو الاستهداف الذي وصفه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بـ"الاستهداف الجبان"، متوعداً العدو الإسرائيلي بالرد.
هذا الصلف الإسرائيلي، الذي يدفع "جيش" الاحتلال إلى مواصلة العدوان على غزة وتوسيع رقعة الحرب خارج فلسطين، يكشف حالة ارتباك واسعة لدى مختلف قادة الكيان، ويؤكد أنهم لم يستردوا عقولهم التي طارت منهم من هول الإنجاز الذي قامت به فصائل المقاومة الغزيّة في يوم السابع من أكتوبر الماضي.
إذاً، عملية "طوفان الأقصى" تظل هي المحرك الرئيس للأحداث، أما "إسرائيل" فمحجوزة في مساحة رد الفعل. وهي، على رغم الإسراف في عمليات القتل والهدم والاعتقال، فإنها تظل عاجزة عن الثأر لمستوطنيها أو تحقيق أهداف عمليتها البريّة متمثلة بالقضاء على المقاومة واسترداد الأسرى.
الأزمة الكبرى التي تعانيها "إسرائيل"، بالإضافة إلى فشل عدوانها على غزة، هي أن محور المقاومة انخرط في القتال بمجرد بدء استهداف غزة، جواً وبراً، وهذا بدوره جعل حكومة الاحتلال في وضع حرج أمام الإسرائيليين، إذ صار المستوطنون غير آمنين على أرواحهم، سواء في الشمال حيث قذائف المقاومة الإسلامية في لبنان، أو في الجنوب، إذ طالتهم الصواريخ الباليستية القادمة من اليمن، وبين هذا وذاك تطاردهم المسيّرات التي تحمل توقيع المقاومة العراقية.
جميع ما سبق، مضافاً إليه ارتفاع معدّلات الرفض، عربياً ودولياً، للممارسات الإسرائيلية، وشعور الإسرائيليين بأنهم باتوا منبوذين على مستوى المؤسسات الأممية، أمرٌ يدفع المجتمع الإسرائيلي إلى التحلل ذاتياً. وما العنف الإسرائيلي في الشهور الأخيرة سوى تعبير عن حالة التشوّش والتيه التي يعيش فيها الإسرائيليون، سواء كقادة أو أفراد عاديين.
حتى الولايات المتحدة، التي تحتضن "إسرائيل" على الدوام، وتعدّها قاعدة عسكرية وبشرية متقدمة لتحقيق أهدافها الاستعمارية، باتت تستشعر صعوبة الأوضاع الإقليمية، وبدأت تتلمّس المصير الأسود الذي ينتظر "ولايتها الـ 51"، في حال ظلت الأمور تدار وفق تلك العقلية اليمينيّة المخبولة.
ولعلّ هذا ما دفع الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى توبيخ بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، كما دفع واشنطن إلى نفي أي علاقة لها بالقصف الجوي الذي طال القنصلية الإيرانية، لأن الإدارة الأميركية تدرك حجم قوة محور المقاومة اليوم، وأنه حتماً سيعاقب من ساهموا في تلك العملية.
"طوفان الأقصى" وعودة الوعي
في ظل تلك المعطيات يأتي يوم القدس العالمي لينكأ الجرح الإسرائيلي، ويؤكّد ثبات الشعوب المقاوِمة على مواقفها الداعمة لتحرير الأرض المسلوبة، وليهدم كل المساعي الصهيونية والأميركية لبث الفرقة بين شعوب المنطقة عبر استخدام لغة طائفية أو مذهبية أو عرقية.
فعلى رغم الصعوبات التي تمر فيها المنطقة، فإن الحرب الأخيرة على غزة كانت كفيلة بمنح قبلة الحياة للوعي العربي الذي تشوّش طوال عقود، بتأثير الخطاب المضلِّل الذي استخدمه بعض الدعاة في المنابر، أو بعض أصحاب الرأي في منصّاتهم الإعلامية.
مع عملية طوفان الأقصى والأحداث التي تلتها، استعاد الشارع العربي، في مختلف مكوناته، وعيه المفقود، وأدرك أهمية الدور الذي تؤدّيه طهران ومحور المقاومة. ولعلّ هذا ما يفسر ارتفاع حجم المشاركة في يوم القدس هذا العام مقارنة بالأعوام الفائتة.
يوم القدس حائط صد أمام التطبيع
على رغم أن القاهرة عقدت اتفاقية سلام مع "تل أبيب" منذ عقود، فإن التطبيع ظل مقتصراً على مستويات رسمية أو اقتصادية محدودة، ولم يتوسع إلى مستويات ثقافية أو شعبية، حتى إن الدولة لم تتوقف عن الاحتفال بذكرى انتصار أكتوبر كل عام، وهو الأمر الذي يثير استياء قادة الاحتلال، بسبب وعيهم أن إحياء هذا النصر يكرّس صورة "إسرائيل" كياناً عدوّاً للشعب المصري، للأجيال الحالية أو الجديدة.
هذا الأمر يكشف إدراك "إسرائيل" طبيعة الأحداث التي تعوق انخراطها في المنطقة، وتعطّل حلم مؤسسيها بتحقيق تطبيع شامل مع كل الدول المحيطة بها والقريبة منها. وهذا بدوره يحيل على أهمية يوم القدس، ويمكن رصد ذلك عبر النقاط الآتية:
أولا: تؤكد مظاهر إحياء هذا اليوم أن العواصم الإسلامية لا يمكن أن تقبل استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وأن كل خطوة إلى الأمام في اتجاه التطبيع ستعقبها خطوتان أو ثلاث إلى الخلف.
إن الوعي السائد اليوم في الأمة الإسلامية هو ما كشفه القائد العام لقوات حرس الثورة الإيرانية، حسين سلامي، ويتلخّص في أنّ الكيان الصهيوني يعيش على الإنعاش الأميركي والإنعاش الغربي، وأنّه إذا توقف هذا الإنعاش سيسقط هذا الكيان، وأن هذا اليوم ليس بعيداً.
ثانياً: إن قضية القدس هي القضية الأهم لعموم المسلمين حول العالم، وإنها تشبه قطعة الفلين كلما حاول أعداؤها إغراقها طفت من جديد.
ثالثاً: إن الشعوب تستطيع التمييز بين حليفها وعدوّها، ما دامت بوصلتها مضبوطة في اتجاه فلسطين. من هنا، تنبع أهمية يوم القدس، لأنه يمثّل مناسبة دوريّة لإعادة ضبط البوصلة، في حال أصابها بعض الانحراف.
رابعاً: كل هتاف تجتمع عليه الشعوب المقاومة هو بمثابة دفقة من الرصاصات التي تستقر في صدور قادة الاحتلال، لأنه يؤكد وحدة الشعوب الإسلامية وصعوبة اختراقها، ما ظلت عيونها في اتجاه القدس.
السيد شبل ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً