مقالات مختارة
تصر واشنطن، منذ عقود طويلة، كما خلال المفاوضات الاخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على تقديم نفسها وسيطاً، الا أن الوقائع تثبت استحالة هذا الأمر. فدور الوساطة يتطلب، كما هو معلوم، "إتاحة الحوافز وتقديم التطمينات والضمانات إلى كل أطراف النزاع ".
وهذا ما لم تقم به واشنطن تجاه الطرف الفلسطيني طوال أعوام ممارستها المزعومة هذا الدور، في وقت مارسته بإفراط مع الطرف الإسرائيلي. السبب معلوم وواضح للجميع. إنه مزيج من الأيديولوجيا والمصالح القومية والحسابات السياسية الضيقة للسياسيين الأميركيين. وهذا يعني، بكل بساطة، أن واشنطن لا يمكنها أن تؤدي دور الوسيط.
فكيف يمكن لطرف تربطه علاقات استراتيجية، تحولت إلى خاصة، ثم استثنائية، بأحد طرفي النزاع، أن يؤدي دور الوساطة؟ بل ذهب كثيرون من المحللين والمراقبين والكتّاب إلى أن العلاقة في بعض الأحيان وصلت إلى مستوى "وحدة الحال". الرواية، التي يرويها الدبلوماسي الأميركي أرون ديفيد ميللر خير دليل.
الرجل، الذي كان شاهداً على السياسات الأميركية في الشرق الأوسط طوال عقود، من خلال شغله مناصب استشارية إلى جانب ستة من وزراء الخارجية الأميركيين، منذ عام 1978 حتى عام 2003، وكان "ضابط السيطرة" المختص بمرافقة الرئيس ياسر عرفات ومتابعته في أعقاب عملية أوسلو، يتحدث عما يسميه "لحظة التعري الكبرى"، والتي كشفت المفاوض الأميركي على نحو جليّ.
وصل ميللر إلى هذه النتيجة في يوم من أيام تشرين الثاني/نوفمبر 1996 عندما كان الوفدان الفلسطيني والإسرائيلي في جلسة تفاوض بشأن مدينة الخليل في منزل مارتن إنديك، مساعد وزير الخارجية الأسبق والسفير الأميركي الأسبق في "إسرائيل". طلب ميللر إلى إنديك، في وسط الاجتماع، وقف الحوارات لأنه يريد أن ينضم إليه اليهود الموجودون لأداء صلاة خاصة ليغفر الله لأمه التي ماتت بالسرطان قبل وقت قصير، وهو ما اعتاد أن يفعله يومياً عند منتصف الليل، وهي صلاة لا تستقيم إلا بحضور عشرة أشخاص، بحسب التعاليم اليهودية. وعندما بدأ المجتمعون الصلاة الخاصة، لم يكن هناك سوى عباس ودحلان وحدهما يترقبان ما يحدث. يقول ميللر إن هذه الحادثة أظهرت أمامه حقيقة، مفادها أن من الصعب تجاهل ما شعر به الفلسطينيون في المنزل من جراء "وحدة الأميركيين المفاوضين والإسرائيليين المفاوضين".
تجسيد هذه العلاقة رافق شخصيات كثيرة أدت دوراً في "الوساطة"، والذي كان في الحقيقة بحثاً عن المصالح الإسرائيلية وحرصاً عليها، وأبرزهم كيسنجر، الذي أدى دوراً في فك الارتباط بين مصر و"إسرائيل" في عام 1973، والرئيس جيمي كارتر، الذي أدى دوراً في كامب ديفيد، وجيمس بيكر وبوش الأب في مؤتمر مدريد، ثم كلينتون وبوش الابن وأوباما. في كل هذه المحطات، كان المفاوض الأميركي يتحرك دائماً تحت سقف "حماية إسرائيل"، بل تحت تأثير الوقوع في حبها.
هذا ما يشير إليه ميللر في كتاب له، سمّاه "الأرض الأكثر وعداً: البحث الأميركي المراوغ عن سلام عربي إسرائيلي". يتحدث الدبلوماسي الأميركي عما يسميه "دروب التدليل واللِّين للصديقة الاستراتيجية إسرائيل، والتي لم تمارس ضدها الولايات المتحدة القسوة التي تليق بعلاقة يخشى فيها طرف على مصالح طرف آخر، أو بمعنى آخر علاقة الحب التي يقسو فيها المحب أحياناً من أجل حماية الطرف الشارد".
لا شيء غير هذا المستوى القوي من الالتحام يفسّر الأداء الأميركي المريب خلال تاريخ المفاوضات العربية الإسرائيلية، وهو أداء لا يمكن أن تنطبق عليه معايير الوساطة، ولو في الحد الأدنى. لقد منحت الولايات المتحدة "إسرائيل" المُهَلَ المفتوحة، وأطالت المفاوضات من دون أي سقوف زمنية، الأمر الذي شجّع المسؤولين الإسرائيليين على عدم الوفاء بالالتزامات ورفض الخيارات التي تؤدي إلى ما يسميه الأميركيون "إنهاء الصراع". فكانت النتيجة فشل محاولات عدد من الرؤساء الأميركيين، أبرزهم كلينتون وخلَفه جورج بوش الابن.
الفشل وضياع الجهود الأميركية هباءً منثوراً جاءا، وفق ميللر، نتيجةً لتبني كثيرين من المسؤولين في الإدارة الأميركية مواقف "تل ابيب"، ووقوفهم في خانة "محامي إسرائيل". وهذا ما تحدث عنه أيضاً وزير الخارجية المصري الأسبق، نبيل فهمي، الذي ذكر، في عام 2019، أن إدارة كلينتون "طمست الفوارق بين المصالح والأولويات الأميركية والإسرائيلية". دينيس روس، المبعوث الأميركي لما يسمى عملية السلام في إبان أوسلو، أدلى بدلوه في الاتجاه نفسه، عندما أكد أن الهدف الاساسي خلال المفاوضات "كان ضمان تحقيق مصالح إسرائيل".
حتى في الوقت الذي ظهرت خلافات أو تناقضات معينة، كما هو قائم اليوم إزاء المفاوضات الحالية بشأن تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، فإن الرؤساء والمسؤولين الأميركيين سرعان ما كانوا يؤكدون أن الخلاف لن يفسد الالتزام الأميركي بشأن التفوق الإسرائيلي، سياسياً وعسكرياً.
حدث هذا عندما امتنع جورج بوش الاب عن منح ضمانات القروض وسيلةً للضغط على "إسرائيل" في عام 1991، إلا أنه، في الوقت نفسه، كرّر بإصرار التزام بلاده المحافظة على "التفوق العسكري النوعي لإسرائيل والقدس غير المقسمة"، كما أنه لم يعترض على استمرار المشروع الاستيطاني وتمويل الجيش الإسرائيلي وضمان هيمنته إقليمياً". السيناريو نفسه يتكرر اليوم. ففي الوقت، الذي يطلق الرئيس الأميركي بايدن انتقادات لنتنياهو، يكرر ما قاله سلَفه في عام 1991 وينفذه بحذافيره من دون أي مواربة.
هنا تبرز مسألة المصالح الشخصية الانتخابية للرؤساء الأميركيين، والتي تساهم، في بعض الأحيان، في أن تفوق العلاقة الاستثنائية المصلحة الوطنية للولايات المتحدة الأميركية.
فهناك حقيقة يدركها الجميع في واشنطن ويسلّمون بها، وهي ترخي ثقلها على كاهل السياسيين الأميركيين، وهي، وفق ميللر، "أنه لا يمكن لأحد النجاح في الحياة السياسية الأميركية اليوم ما لم يحمل توجهات إيجابية ازاء إسرائيل".
ويذهب إلى حد الكلام على "أن أميركا واقعة تحت تأثير إسرائيل بصورة غير عادية"، وأن هناك جيشاً ممن يسميهم "محامي إسرائيل"، الذين يتسببون، في أحيان غير قليلة، بالضرر للمصالح الأميركية. أبرز هؤلاء منظمة آيباك، التي تثور ثائرتها عندما تظهر أي إدارة أميركية "التزاماً بشأن التسوية السلمية، فلا يترددون في الدفع في اتجاه قرارات وخيارات تضر بالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط".
الإضرار بمصالح واشنطن أصبح من الاحتمالات شديدة الحدوث اليوم. يبدو واضحاً أن السياسات الإسرائيلية وإصرار "تل أبيب" على الاستمرار في الحرب على غزة بدأت تشكل خطراً على مصالح واشنطن في منطقتنا. ومع ذلك، يواصل الأميركيون ممارسة نوع من خداع البصر الذي تمرسوا عليه منذ أن زعموا أنهم يؤدون دور "الوسيط". عدّ الأميركيون أن دور الوساطة، حتى لو لم تصل العملية التفاوضية إلى نهاياتها المرجوة، يشكل الطلقة السحرية التي ستحمي مصالحهم.
إلا أن ما كان يصح، ولو نسبياً في الماضي، لم يعد مجدياً بعد عملية طوفان الأقصى. لم يعد في إمكان الأميركيين تجاهل أن المنطقة تموج بالتناقضات، وعلى رأسها التناقض الرئيس، والذي تسبب به قيام المشروع الإسرائيلي الاستيطاني، وأن قدرة واشنطن على الضبط والسيطرة محدودة وغير مضمونة، وأن الأمور قد تذهب إلى تهديد جدي للمصالح الأميركية المرتبطة منذ عقود طويلة بالأوضاع في منطقتنا.
كل ذلك يحدث في لحظة استراتيجية لا يملك فيها الأميركيون ترف التخلي عن منطقتنا، التي تراكمت فيها خسائرهم وهزائمهم، كما لا يمكنهم مواصلة المراوغة والنفاق والتنكر في ثوب "الوسيط".
بثينة عليق ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً