مقالات مختارة
خمسة أشهرٍ ويزيد على بداية الحرب التدميرية الطاحنة التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة. وفيما تنتشر آثار الدمار ورائحة الموت في كل زاوية من زوايا القطاع، يستمر "جيش" الاحتلال الإسرائيلي باستهداف الأطفال والنساء وكبار السن وتدمير مقومات الحياة كلها دون استثناء.
صمت العرب والمسلمون وصمت المجتمع الدولي أمام استمرار حرب الإبادة الجماعية التي يشنها "جيش" الاحتلال على قطاع غزة، فتمادت "إسرائيل" وتغطرست، وشهد سكان القطاع على مدار أكثر من 5 أشهر موجات متتالية من المجازر قل مثيلها في العصر الحديث، مع ما رافقها من تدمير ممنهج وواسع النطاق للبنى التحتية والمنازل والمدارس والمستشفيات والجامعات والمساجد والكنائس.
مشاهد يومية كساها لون الدم، وغطاها غبار منازل دكت على رؤوس ساكنيها، وأجساد متناثرة مزقها القصف في أنحاء القطاع، وجثث دفنت بطرق عشوائية، وأطفال ارتجفوا من فاجعة الأحداث، وأمهات علا نحيبهن حتى الموت. هي فواجع لم يشهد العالم مثلها بهذا القدر من الفظاعة البيّنة، فطرت فيها القلوب على أطفال غزة ونسائها وشيوخها.
لا ريب في أن المجتمع الدولي يتحمل المسؤولية الكاملة عن تصاعد جرائم "إسرائيل" في غزة، في ظل استمرار موقفه السلبي والضعيف، بل والمتواطئ، أمام حرب الإبادة التي تطال القطاع وسكانه، لكن الأكثر ريبةً وإيلاماً من سكوت المجتمع الدولي وعجزه هو حالة الاعتياد التي تريد "إسرائيل" تكريسها في الوعي العالمي من مشهد المقتلة المتواصلة في القطاع، فالاحتلال يراهن على أن العالم سوف يعتاد مشاهد قتل الأطفال والنساء ودفن المواطنين العزل تحت الرمال وهم أحياء.
ورغم هول العنف الإسرائيلي المفرط والتفنن اليومي في ابتداع أشكال جديدة في قتل الفلسطينيين، فإن مأساة غزة تأخذ في التراجع خطوات إلى الوراء في الأولويات الدولية، حتى تكاد أخبارها تتحول إلى متابعة روتينية لعملية تدميرٍ ممنهج وقتلٍ لشعبٍ بأكمله.
تريدنا "إسرائيل" أن نعتاد مجازرها الدموية، كما تعتاد فعلها من دون أن ترمش، وتكرّسها كنهج يومي، وتعيد بشكل هستيري إنتاج سردية الحرب وروحها وقرع طبولها، وكأن اليوم هو يومها الأول.
ويبدو أن هذا الاعتياد هو هدف إسرائيلي خالص تمارسه من أجل أن تصرف الأنظار عما تفعله لتصفية الشعب الفلسطيني وقضيته، بحيث يصبح بقاؤه على قيد الحياة هو هدفه الأسمى.
تراهن "إسرائيل" على أن السلوك البشري الطبيعي يميل بعد فترة طويلة من الانتظار دون حدوث تغيير جوهري على سردية الحرب ووتيرتها ومشاهدها البشعة إلى التأقلم. صحيحٌ أن اعتياد الإنسان مشاهد الدماء يشعره بالحزن والتعاطف، لكنه لن يجزع من الصورة ذاتها كما أول أيام القصف والدمار، نظراً إلى أن عينيه اعتادتا هذه المشاهد، ورآها مراراً وتكراراً على مدار اليوم والأسبوع والشهر، فالسلوك البشري يميل عادةً إلى وسيلة الدفاع النفسية بالتأقلم، وفق علماء النفس.
ويبدو أن التعرض المتكرر لصور ومشاهد القتل يقود إلى حالة من تبلّد المشاعر، فطبيعة الإنسان تقضي بأن تحدث بينه وبين الصورة ألفةٌ في حال تكرارها، وقد تؤدي على المدى الطويل إلى أضرار نفسية بالغة، منها الشعور باليأس الذي يدفع صاحبه إلى تجنّب المشاهدة أو اعتياد مشاهد الدماء والقتل من دون شعور بوخز ضمير تجاهها، فتصبح جزءاً من الحديث اليومي المعتاد.
مع بداية الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وجد كثيرٌ من الناس صعوبةً في متابعة مشاهد العنف والصور المروّعة التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة.
وقد أدى استمرار هذه المشاهد المؤلمة إلى عدم تحمل البعض لها بسبب قسوتها، فكان رد فعلهم الابتعاد عنها أو "الانسحاب"، نتيجة الشعور بالعجز عن إحداث تغيير في هذا المشهد المأساوي لمصلحة الضحايا؛ فالمشاهد المتكررة في حياتنا اليومية تصبح في نهاية المطاف عادية، ونوطن أنفسنا لنتأقلم معها ومع الظروف التي خلقتها، وتتطور لدينا طاقة تحمّل المعاناة كلّما تعرّضنا لها أكثر، وتفرز أدمغتنا ما يساعدنا على الاقتناع بأن ما يحصل حولنا طبيعي ويمكن التعايش معه!
وبالطبع، يتأثر نظامنا العاطفي، وفق علماء النفس، فيلجأ إلى عملية تسمى "الآلية العاطفية اللاواعية" المرتبطة مباشرة بالنسيان، وفيها يقرر دماغنا أنه ملزم بنسيان المشاهد المؤلمة ليتمكن من التأقلم وإكمال الحياة بشكل طبيعي والتعايش مع الألم، وهي آلية دفاعية يتبناها الدماغ لقمع الأفكار المؤذية المؤلمة.
إن التعرّض للمشاهد الأليمة، وسط عجزنا عن تغيير الواقع، يدفعنا إلى "التبلّد العاطفي"، أي غياب ردود الفعل على العنف والقتل والدمار، خصوصاً مع مضي الوقت وكثرة الصور والفيديوهات الأليمة التي نشاهدها، بحيث لا نعود قادرين على التعاطف عند وقوع المجازر، ونفقد القدرة على التفاعل وتغيير الواقع مثلما يحدث مع المشاهد الفظيعة القادمة من غزة. هذا التأقلم السلبي مع الأحداث له تداعياته المريرة على وعينا ومشاعرنا، إذ نصبح بحاجة إلى مشاهد أكثر إيلاماً أو خطورة كي نشعر بالانفعال.
ومن موقع التراخي والاعتياد، نفقد شعورنا بالمسؤولية والدافع إلى الفعل تجاه هذا الإجرام، على عكس ما يفعل الاحتلال الذي يرى في تراخينا واعتيادنا فرصة سانحةً للمضي في سياسة طحن عظام أطفال غزة، مستغلاً خذلان العرب والمسلمين وغياب الاهتمام والمتابعة على كل المستويات. وربما مع الوقت، ووفق ما يخطط، لن تعود غزة تحت الأضواء ولا في صلب الاهتمام، وهي الظروف المثالية المؤاتية تماماً لاستمرار الانقضاض عليها وسحقها كما تشتهي "إسرائيل".
بالنسبة إلى "إسرائيل"، هذا اختبارٌ لمدى مقدرتها على حسم المواجهة في هذه الحرب لمصلحتها عبر إعادة هندسة وعينا وتطويعه للإقرار بأننا عاجزون، ولنلاحظ أنه مع "هندسة الوعي" تنكمش كذلك مساحة فعلنا وتأثيرنا في هذا المشهد الإجرامي.
صحيح أن محور المقاومة أثبت، ومعه حاضنة شعبية صلبة من عرب ومسلمين، أنه قادر على مشاغلة "إسرائيل" وإيلامها بتداعيه لنصرة غزة ومساندتها، إلا أن "إسرائيل" التي تعج باليمين الفاشي ترى ضرورة استثمار اللحظة التاريخية الفاصلة في هذه الحرب لقلب المشهد في غزة، كما في الضفة والداخل الفلسطيني المحتل عام 48، لمصلحتها ومصلحة مشروعها الاستعماري التوسعي.
في الواقع، يفرض علينا هذا التحدي القاسي مواجهة هذا الانفلات الإسرائيلي، حتى لا نجد أنفسنا، لا قدر الله، خارج سياق الزمان والمكان. ولكي نمنع كيّ وعينا وتعطيل فعلنا، يجب أولاً أن نستمر في الضخ الإعلامي ومواصلة مواجهة سياسات الاحتلال ومجازره عبر تكثيف العمل في وسائل الإعلام ومواقع التواصل والشبكات الاجتماعية التي تضمن الزيادة الكبيرة في حجم تدفق المعلومات عبرها تعريض الجمهور العربي والإسلامي والعالمي الواسع للمفاهيم والمبادئ التي تضمن بقاء عقولنا وقلوبنا متيقظة تنبض بغزة وبفلسطين ومقاومتها وشعبها الصابر المرابط.
تحتاج هذه المواجهة إلى تفعيل كل إمكانات وقوى الشعب الفلسطيني ومحيطه العربي والإسلامي وأحرار العالم، في محاولة لصد الهجمة المستعرة التي تستهدف غزة وشعبها ومقاومتها. لذلك، يجب أن نستمر في حث الناس على التحدث عن مأساة غزة أكثر، وأن نسلط الضوء على أهمية ألا تصبح جثامين الشهداء أرقاماً عابرة، مع محاولة التوعية بأن اعتياد المقتلة التي تجري لن يولّد إلا إصراراً إسرائيلياً على استمرار القتل، وأن الابتعاد عن مشاهدة ما يجري لا يعني انتهاء المجازر والقتل. يجب علينا أن نحفز أدمغة شعوبنا ووعيها عبر دفعها إلى المساعدة والتأثير الإيجابي، أياً تكن طبيعتهما؛ المهم أن لا نقع في خطيئة السكوت.
إن ما تفعله المؤسسات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي الداعمة لغزة ومقاومتها والمحور المساند لها يعمق فهمنا ووعينا بطبيعة الحرب الدائرة، إذ إن تأثّرنا يزداد كلما اقتربت الأحداث منا، وكلما كانت الصلة بيننا وبين ما يجري أكبر.
وبذلك نحفاظ على درجة اهتمام عالية فيما يجري في غزة، ونبقى غزة وشعبها في صدارة الاهتمام العربي والعالمي حتى تضع الحرب أوزارها.
محمد هلسة ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً