حرب غزة وإعادة بناء "الجيش الإسرائيلي"

الثلاثاء 19 آذار , 2024 09:10 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة 

أزالت عملية طوفان الأقصى الفكرة التي سادت داخل "الجيش الإسرائيلي" منذ بداية القرن الواحد والعشرين بأن "إسرائيل" تحتاج فقط إلى "جيش" صغير وذكي من أجل الحفاظ على أمنها، وباتت العبرة الأساسية الأولى من معركة طوفان الأقصى وحرب غزة أن "الجيش" الإسرائيلي مطلوب منه صياغة استراتيجية جديدة وفاعلة لطبيعة التهديدات التي أبرزتها حرب غزة ومعركة طوفان الأقصى، والتي يطالب البعض في" إسرائيل" أن تكون استراتيجية ذات سمات هجومية بعيدة كل البعد عن سياسة الاحتواء للتهديدات المحيطة وملتزمة بحماية قوية لحدود "إسرائيل"، الأمر الذي يتطلب تغييراً شاملاً وجذرياً داخل "الجيش" الإسرائيلي، بدءاً من السعي إلى تطوير مرتكزات العقيدة العسكرية القتالية التي انهارت مع اللحظات الأولى من معركة طوفان الأقصى، مروراً بإعادة بناء هياكل الوحدات العسكرية على مستوى الفرق والألوية وتوزيع القدرات البشرية والتسليحية بحسب الأولويات الأمنية الجديدة، وصولاً إلى زيادة ميزانية المؤسسة العسكرية ومدة التجنيد الإلزامية والاحتياط. بمعنى آخر، المطلوب أنَّ لا يعود الجيش الإسرائيلي كما كان قبل السابع من أكتوبر.

 انتقال "الجيش" الإسرائيلي من "جيش" صغير يدير عمليات عسكرية محدودة ذات أهداف محددة (تحقيق النصر في إطار استراتيجية المعركة بين الحروب*) إلى "جيش" كبير يستطيع خوض حروب شاملة من أجل تحقيق الحسم العسكري، يطرح علامة استفهام كبيرة على قدرة "الجيش" الإسرائيلي في تحقيق ذلك الانتقال، وخصوصاً في ظل الأوضاع السياسية والعسكرية والمجتمعية التي تمر بها "إسرائيل".

دفعت الحرب "الجيش" الإسرائيلي إلى وقف عملية خفض فترة الخدمة الإلزامية في "الجيش" من أجل زيادة عدد جنوده من خلال زيادة فترة التجنيد وزيادة عدد جنود النظاميين، إذ أعلن "الجيش" أنه يريد تجنيد 14500 جندي نظامي جديد، وعودة الخدمة الالزامية إلى 36 شهراً بدلاً من 32 شهراً، لكون حرب غزة دشنت مرحلة العودة إلى الحرب متعددة الجبهات، الأمر الذي يتطلب من "الجيش" الإسرائيلي أن يكون قادراً على مواجهة كل الجبهات في آن واحد، من خلال توفير القوة العسكرية العددية والنوعية لكل جبهة بما يناسبها، الأمر الذي يتطلب زيادة تسليح وحدات الجيش النظامية والاحتياطية ورفع مستويات تدريبها وجاهزيتها في كل الجبهات هجومياً ودفاعياً. ومن أجل استقطاب القوة البشرية اللازمة لذلك، يحتاج "الجيش" إلى زيادة رواتب الجنود والضباط النظاميين من أجل قطع الطريق على هروب النوعيات الجيدة منه إلى سوق العمل الخاص بكل ما به من مغريات مالية وظروف عمل ذات رفاهية.

 تقدر موازنة "الجيش" الإسرائيلي قبل حرب غزة بـ63 مليار شيكل، إضافة إلى 13 مليار شيكل من أموال المساعدات الأميركية، بمعنى أن موازنة "الجيش" تمثل 3.8% من الناتج الإجمالي لـ"إسرائيل"، ولكن إعادة صياغة "الجيش" بعد الحرب تطلب زيادة كبيرة في الموازنة، رغم أن المختصين في وزارة المالية وفي "الجيش" لم يستطيعوا بعد معرفة حجم الزيادة المطلوبة لموازنة المؤسسة العسكرية، ولكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سيموتريتش تحدثوا عن زيادة 20 - 30 مليار شيكل في السنة، بمعنى زيادة على موازنة الجيش الأساسية بنسبة 31% - 47%.

وبذلك، يصبح الحديث عن زيادة موازنة المؤسسة العسكرية إلى 6% - 7% من الناتج المحلي الإسرائيلي، بمعنى 108 - 126 مليار شيكل، ولكن هذه الزيادة لها تأثيرات سلبية في الاقتصاد الإسرائيلي، الأمر الذي جعل بعض الاقتصاديين الإسرائيليين يتنبأ بأن السنوات العشر القادمة ستكون صعبة على الاقتصاد الإسرائيلي، كما حدث بعد حرب أكتوبر عام 1973 بما يعرف "بالعقد المفقود" اقتصادياً، والذي أدى إلى كارثة التضخم المالي في أوائل ثمانينات القرن الماضي، وخصوصاً أن الأحزاب السياسية، وخصوصاً الحريديم والصهيونية الدينية، أثناء حرب غزة لم تقبل التنازل عن الأموال الائتلافية الذاهبة إلى مصالحها ومصالح قطاعاتها الانتخابية لحساب الجهد الحربي للجيش الإسرائيلي، بمعنى أن زيادة موازنة الجيش ستكون على حساب رفاه الجمهور الإسرائيلي، وهي الإشكالية التي كانت "إسرائيل" تسعى من أجلها لخلق جيش صغير وذكي محدود الموازنة.

حتى في حال توفير الموازنات اللازمة لإعادة صياغة "الجيش "الإسرائيلي من جديد، فهناك تحذيرات من أن يتم ذلك بشكل هستيري دون خطة واستراتيجية واضحة. وهنا تبرز عدة إشكالات، أهمها:

أولاً، إن عملية صياغة "الجيش" الإسرائيلي الجديدة مطلوب منها أن تتم في الوقت الذي يخوض "الجيش" الحرب، بمعنى آخر بناء قوة عسكرية قادرة على مواجهة التحديات المحيطة المستجدة أثناء القتال. وهنا، يجدر التذكير بتجربة الجيش الإسرائيلي في بناء ذاته بعد حرب تموز 2006، إذ انتهجت المؤسسة العسكرية والجيش الإسرائيلي استراتيجية ذات مسارين:

المسار الأول، العمل على إدارة الصراع العسكري والأمني مع التهديدات المحيطة لمنع تعاظمها من جهة، ومن جهة أخرى شراء أكبر قدر ممكن من الهدوء ومنع نشوب الحرب، وهذا كان أحد أهدف استراتيجية "المعركة بين الحروب" المركزية.

المسار الثاني، بناء القدرة العسكرية الإسرائيلية من خلال الاستفادة من مساحة الوقت التي يمنحها المسار الأول "المعركة بين الحروب".

على مدار ما يقارب 18 عاماً من الهدوء، نفذ "الجيش" الإسرائيلي مجموعة من الخطط متعددة السنوات لإعادة بناء قوته العسكرية وهياكله وتسليحه، بدءاً من خطة "تيفن" (2008_ 2012)، وخطة "جدعون" (2015- 2019)، وخطة "تنوفا" (2019- 2022)، وما واكبهما من مشاريع عسكرية استراتيجية (القبة الحديدية، ومنظومة السهم "2" والسهم "3"، ومقلاع داوود، والحائط الليزري، والمانع الأرضي، وغيرها)، لكن كل تلك الخطط فشلت في بناء قوة عسكرية تمنع حدوث معركة طوفان الأقصى في وقت الهدوء، فهل يستطيع الجيش إعادة بناء نفسه في ظل الحرب والقتال؟!

ثانياً، فشل السابع من أكتوبر ستكون له تداعيات على القيادة العليا للجيش، فبالتأكيد ستتم إقالة كل القيادات المركزية في "الجيش"، بدءاً من رئيس الأركان إلى رئيس وحدة الاستخبارات العسكرية إلى مسؤول المنطقة الجنوبية وسلسلة طويلة من القيادات.

بمعنى آخر، سيكون هناك حالة من عدم الاستقرار القيادي داخل "الجيش" الإسرائيلي، وخصوصاً إذا اندلعت حرب الجنرالات داخل" الجيش" في ضوء التعيينات الجديدة ونتائج التحقيقات. وهنا، لا يمكن إغفال التأثيرات السلبية للمستوى السياسي الحزبي في تلك الحرب داخل الجيش، وبالتالي لن يكون هناك الاستقرار اللازم لإنجاح عملية إعادة صياغة الجيش الإسرائيلي في المدى القريب على الأقل.

ثالثاً، الحالة السياسية الإسرائيلية المتوترة التي بدأت ملامحها تشابه الحالة التي سبقت السابع من أكتوبر، فمن الواضح أن "إسرائيل" ذاهبة إلى حالة من عدم الاستقرار في المشهد السياسي والحكومي، وإلى إشكالات كبرى في ظل حكومة نتنياهو على المستوى الداخلي المجتمعي، وعلى المستوى الخارجي، وخصوصاً مع الحليفة الكبرى الولايات المتحدة الأميركية، مع كل ما يحمله ذلك من تأثيرات سلبية في الجيش وخططه الاستراتيجية، ناهيك بأن حرب غزة كسرت الحظر الذي فرضه رئيس الوزراء المؤسس ديفيد بن غوريون على الجيش وقادته من التدخل في السياسة الإسرائيلية، إذ بات قادة "الجيش" أكثر تدخلاً في السياسة بعد حرب غزة، الأمر الذي سيفتح الباب على مصراعيه للأحزاب السياسية للاصطدام مع الجيش وقيادته، بكل ما يحمله ذلك من تأثيرات سلبية خطيرة على استقرار الجيش وثقة المجتمع الإسرائيلي به.

البعض في "إسرائيل" يشير إلى انهماك "الجيش" الإسرائيلي طوال 15 عاماً تقريباً بعد حرب لبنان الثانية في استراتيجية المعركة بين الحروب المعتمدة على تصميم عمليات عسكرية محددة الأهداف والنطاق (مفتساع)، وما قبلها انهماكه في ما يسمى الأمن المستمر لمواجهة المقاومة الفلسطينية في فترة انتفاضة الأقصى 2000-2005، إلى تآكل قدرة الجيش الإسرائيلي على خوض وإدارة حرب شاملة.

 

حسن لافي ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل