مقالات مختارة
إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن يوم الجمعة الفائت عن توجيه الأوامر للجيش الأميركي بإنشاء ميناء على شاطئ غزة مرتبط بممر مائي من قبرص يمتد على مدى 380 كيلومتراً لإيصال المساعدات إلى القطاع أثار العديد من الشكوك، فالجيش الأميركي شريك مباشر في العدوان على أهالي قطاع غزة؛ حيث يقاتل ما يقرب من 2000 جندي أميركي إلى جانب "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى المستشارين العسكريّين الأميركيّين الذين يقدّمون استشاراتهم ونصائحهم لـ "جيش" الاحتلال منذ بداية العدوان على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم.
فضلاً عن ذلك، فإن الولايات المتحدة كانت قد دشّنت جسراً جوياً هائلاً "لم يسبق له مثيل في الشرق الأوسط"، زوّد الكيان الصهيوني بمئات آلاف القذائف التي تلقى كل يوم على أهالي غزة من الأطفال والنساء وكبار السن، ما يعني أن الولايات المتحدة حاضرة بقوة في العدوان الهمجي على قطاع غزة الذي تمارسه آلة الحرب الصهيونية الجبانة.
وعندما يعلن بايدن أنه وجّه أمراً لهذا "الجيش" (شريك العدوان) بإنشاء "رصيف بحري" على شاطئ غزة لاستقبال المساعدات "الإنسانية" من قبرص، مع تكليف 1000 جندي لتولّي مهمة الإشراف على الرصيف بالتنسيق الأمني الكامل مع "جيش دولة الكيان" (الذي يحتل قطاع غزة)، فإنه يؤكد خبث ما قام به، خاصة مع الإعلان الفوري للمملكة المتحدة (أحد الداعمين الرئيسيّين للعدوان) عن مشاركتها في الممر والرصيف.
كذلك أعلنت الإمارات العربية المتحدة صاحبة المواقف الملتبسة مشاركتها في مسار الممر البحري والمرفأ، لتتعمّق الشكوك السياسية لمسار المرامي الخبيثة للممر والمرفأ، والتي تبدأ بتكريس إعادة احتلال القطاع، وفرض إدارة عسكرية لحكم قطاع غزة من خلال تحالف أميركي – إسرائيلي تحت "غلاف حماية نقل المساعدات، ومن بعده الإشراف على إعادة المهجّرين من الشمال والوسط وصولاً إلى إعادة الإعمار، ما يعني أنها فترة زمنية مفتوحة لسنوات يجري خلالها العمل على اختراق العقل الفلسطيني وتدجينه".
إنّ إنشاء المرفأ للممرّ الإنساني المزمع أيضاً سيمثّل ثغرة في الأمن القومي الفلسطيني؛ حيث سيكون خاضعاً للإشراف الأمني الإسرائيلي والأميركي، فضلاً عن كونه سيفتح الباب لإمكانية استخدامه كممرّ لـخروج "حالات إنسانية" و"علاجية"، عبر جزيرة قبرص إلى بلدان أخرى، في ظل "الحاجة الإنسانية" التي فرضتها الحرب التدميرية وسقوط مئات الآلاف من الجرحى والمحتاجين، وعجز معبر رفح الحدودي مع مصر عن استيعابهم.
ومع توقّف حركة العدوان التدميري وانتقاله لشكل احتلالي جديد، قد يفتح الباب لاستخدام المرفأ كطريق للبحث عن عمل إلى حين إكمال "إعادة الإعمار"، ما سيجعل منه باباً لـ "هجرة إنسانية مؤقتة". وهذه جميعها مؤشرات سياسية صارخة لوجود احتلالي مشترك من نفق الممر البحري ورصيفه على شاطئ غزة، تفضي إلى مستقبل تدميري للكيانية الفلسطينية.
لعل مايكل فخري كان من أشجع المسؤولين الأمميّين، حيث ندّد بالقرار الأميركي، واعتبر أن الاقتراح الأميركي "خبيث"؛ إذ إن الولايات المتحدة تقدّم في الوقت نفسه قنابل وذخائر ودعماً مالياً لـ "إسرائيل". وقد قال خلال مؤتمر صحافي في جنيف: "للمرة الأولى أسمع أحداً يقول إننا بحاجة إلى استخدام رصيف بحري. لم يطلب أحد رصيفاً بحرياً، لا الشعب الفلسطيني ولا المجتمع الإنساني".
وقالت الخارجية الفلسطينية في بيان، إن تركيز "إسرائيل" على إعطاء الموافقات على فتح ممرات بحرية ومنع مرور المساعدات برياً عن طريق المعابر، هدفه تطبيق خطة حكومة الاحتلال الإسرائيلي بتكريس الاحتلال والفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة وتهجير أبناء الشعب الفلسطيني. وأوضحت أن الممر تترتّب عليه مخاطر تستهدف الوضع الديموغرافي في قطاع غزة، في ضوء عمليات القتل والتجويع وقطع شريان الحياة عن القطاع.
بالرغم من ظاهر القرار الأميركي الذي يتسم بالبعد الإنساني فإنّ باطنه يشي بمرامٍ تصل إلى حد الأخطار التي يمكن أن تتهدّد القضية الفلسطينية، خاصة لجهة استغلال المأساة التي يعيشها سكان القطاع لتنفيذ مخطط التهجير الذي تسعى لتحقيقه سلطات الكيان الصهيوني بدعم أميركي غير معلن.
حيث إن الخطاب الأميركي الداعي لوقف العدوان على قطاع غزة خطاب مزدوج، في الظاهر تدعو الإدارة الأميركية لوقف العدوان ولكنها لا تمارس أي ضغط على حكومة الاحتلال، ما يجعلنا نرى أن إعلان الإدارة الأميركية عن إقامة ميناء بحري على شواطئ غزة لتقديم المساعدات الغذائية يمكن تفسيره باستمرار غطاء البيت الأبيض لحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، وتكمن خطورة الإعلان في إمكانية اعتباره مؤشّراً على استمرار العدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فضلاً عن كونه يمكن أن يشكّل ثغرة في الجدار الأمني للقطاع.
كذلك أظنّ ـــــ وليس كل الظن إثماً ـــــ أن إنشاء الميناء يستهدف عزل مصر عن القطاع وإنهاء دورها في الأزمة الفلسطينية من جرّاء رفضها منذ بداية العدوان لمخطط تهجير أهالي غزة إلى شبه جزيرة سيناء.
أيضاً كثير من الخبراء والمتابعين يرون في الممر المائي ومرفأ غزة خطوة في اتجاه تحقيق مشروع "قناة بن غوريون" الحلم الصهيوني الغربي القديم المتجدد، الذي يمكن أن يمثّل بديلاً لقناة السويس، ومعلوم أن شقّ "قناة بن غوريون" صعب تنفيذه لتكلفته العالية بسبب طولها الزائد ما لم تخترق قطاع غزة، ولتحقيق ذلك كان ضرورياً احتلال القطاع وتفريغه من أبنائه الفلسطينيين، ومن ثم تجريفه بالكامل لكونه الممر الأنسب لشقّ القناة الحلم، التي تربط إيلات الواقعة على البحر الأحمر بغزة الواقعة على البحر المتوسط.
هذا المشروع في حال تحقّقه يختصر الوقت الذي تستغرقه السفن العابرة لقناة السويس ذات العمق 40 متراً، والطول 193 تقريباً، لأنها ذات اتجاه واحد، ورغم أن "قناة بن غوريون" أطول من قناة السويس بنحو 100 كم، فإنها ستتكوّن من قناتين مستقلتين باتجاهين مختلفين، وبعمق 50 متراً.
وواضح أن إدارة الكيان الصهيوني قد حصلت على ضوء أخضر أميركي أوروبي مسبق بالبدء بتنفيذ حلمها، وتحديداً من إنكلترا وفرنسا اللتين شقّتا قناة السويس، وافتتحتاها في سنة 1869، فأمّمها جمال عبد الناصر سنة 1956، وها قد حان وقت الثأر منه، ومعلوم أن الكيان الصهيوني يمثّل القاعدة المتقدّمة للإمبريالية العالمية والتي تستخدمها لتنفيذ أطماعها في منطقتنا.
ما يعني أن سعي الكيان الصهيوني إلى تنفيذ مشروع "قناة بن غوريون"، رغم وجود قناة السويس له عدة أسباب، أحدها اقتصادي، فالمتوقّع أن تدر لها القناة البديلة ما لا يقلّ عن 6 مليارات دولار سنوياً قابلة للزيادة، وبالمقابل ستنخفض إيرادات قناة السويس إلى نحو 4 مليارات دولار سنوياً، أما استراتيجياً فتلك القناة ستضمن لـ "إسرائيل" السيطرة على خطوط الملاحة الأهم عالمياً، وستصبح موانئها حلقة الوصل بين آسيا وأوروبا، وتصبح مصالح الدول المستوردة للنفط والغاز مرتبطة بالحفاظ على مصالح "إسرائيل".
ما يجعلنا نتفق مع رؤية الكثير من المحللين الذين يرجعون التدمير الممنهج والوحشي للبشر والحجر الذي تمارسه آلة الحرب الصهيونية والصمت الأوروأميركي المريب على وحشية الآلة العسكرية الصهيونية، ورفضهم لوقف العدوان إلى الهدف الخبيث المتمثّل في إنشاء قناة بن غوريون على أطلال قطاع غزة، وفي هذا الإطار جاءت التحرّكات العسكرية الأميركية في المنطقة، براً وبحراً وجواً، التي سبقت العدوان بأشهر، وتكثّفت مع بداية العدوان، دعماً وحماية للمشروع الصهيوني، وترهيباً لمحور المقاومة، لمنعه من دعم المقاومة الفلسطينية.
هذا المخطط يتطلّب موقفاً حازماً من السلطات المصرية تجاه العدوان واستخدام أوراق الضغط التي تمتلكها لردع آلة الحرب الصهيونية والضغط على الإدارة الأميركية للكفّ عن دعم المشروع الصهيوني الذي يمثّل خطراً وجودياً على الأمن القومي المصري.
ربما المواقف المتردّدة للسلطات المصرية تجعل البعض لا يراهن كثيراً على إمكانية قيام السلطات المصرية بالدور المنوط بها دفاعاً عن الأمن القومي المصري، لكن هذا لا يمنعنا من مطالبتها بالقيام بالمهمة الواجبة، وندعو الشعب المصري والمؤسسات الوطنية للدولة من أجل الضغط على القيادة السياسية لاتخاذ مواقف أكثر وضوحاً وحزماً في مواجهة المشروع الصهيوأميركي.
يرى البعض وأنا منهم أن تصريحات المسؤولين المصريين لا تتناسب مع خطورة الحدث على الأمن القومي المصري، ولكن علينا أن ندرك أن السلطة السياسية المصرية ليس أمامها خيارات عديدة؛ فإما أن ترفض المخطط وتواجهه بكل الوسائل، أو تعرّض الأمن القومي المصري للخطر وتقزّم من الحضور المصري في الإقليم لصالح الكيان الصهيوني والكيانات العربية المرتبطة به.
إلهامي المليجي ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً