مقالات مختارة
من حق كل شخص أن يختلف جزئياً أو كلياً مع توجهات حماس الفكرية والسياسية لكن، هل من العدل والإنصاف أن تفضي بنا خلافاتنا المشروعة مع هذا التيار أو ذاك إلى توجيه اللوم إلى منظمة حماس بالذات، وتحميلها المسؤولية عن كل ما يعانيه الشعب الفلسطيني حالياً في قطاع غزة؟
أطرح هذا التساؤل لما لاحظته مؤخراً من ميل لدى بعض المعلّقين العرب، ممن يشاركون في برامج حوارية مسموعة أو مرئية، وأيضاً من ميل لدى بعض الكتّاب الذين تنشر مقالاتهم في صحف عربية، للترويج لفكرة مفادها أن "طوفان الأقصى" كانت عملية متهورة، وأن الشعب الفلسطيني هو المتضرر الأكبر منها، لأنها قد تنتهي بنكبة جديدة قد لا تقل في بشاعتها عن تلك التي مُني بها هذا الشعب المنكوب من قبل في حرب 48، وأنه ينبغي لحماس قبل أن تقدم على عملية من هذا النوع أن تتحسب لرد الفعل الإسرائيلي الأهوج حتى لا تعرض الشعب الفلسطيني للمأساة التي يعيشها الآن.
وفي تقديري، أن هذه فكرة ليست خاطئة فحسب، وإنما انهزامية أيضاً، إذا افترضنا حسن النية، أما إذا افترضنا سوء النية فهي فكرة عميلة تتبنى مقولات الدعاية الإسرائيلية وتروّج لها، وذلك لأن النتيجة الوحيدة التي يمكن أن تفضي إليها أفكار من هذا النوع هي تخدير العقل العربي، وترويضه على الانصياع للمنطق الذي يروّج له الاحتلال الإسرائيلي والاستسلام الكامل لرغباته.
فحماس هي أولاً وقبل كل شيء إحدى حركات التحرر الوطني التي أفرزها نضال الشعب الفلسطيني في مواجهة مشروع صهيوني كان، وما يزال، هدفه الرئيسي أن يستولي بالقوة على كامل فلسطين التاريخية، وأن يقيم عليها دولة خالصة لليهود وحدهم.
ولأنه مشروع لا يزال في طور التوسع، ولم يحقق كل غاياته النهائية بعد، رغم تجسده واقعاً على الأرض منذ أكثر من قرن من الزمان، فقد كان من الطبيعي أن تتشكل في مواجهته حركات تحرر فلسطينية متنوعة المشارب والتوجهات السياسية والفكرية، خضع تطورها لعوامل كثيرة تتعلق بقدرة كل منها على التعبير عن طموحات الشعب الفلسطيني وآماله في كل مرحلة من مراحل نضاله الوطني.
ولأن حماس تعدّ حركة حديثة النشأة نسبياً، لأنها لم تظهر على الساحة الفلسطينية إلا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً في أتون الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987، يميل بعض المعلقين إلى تبني وجهة النظر القائلة بأن أجهزة الأمن الإسرائيلية لعبت دوراً رئيسياً في إنشائها.
لذا، يحلو لبعض المعلقين العرب في هذه الأيام أن يعيد على أسماعنا ترديد هذه النغمة من جديد، بهدف الإيحاء بأن منظمة حماس ما هي إلا صنيعة الاحتلال وكانت وما تزال تعمل لحسابه، وهو ما ينطوي على قدر كبير من التجني.
صحيح أننا لا نستطيعً استبعاد فرضية أن يكون الاحتلال الإسرائيلي قد تغاضى عن ظهورها في البداية، لكن الأرجح أن يكون ذلك بهدف إضعاف حركة فتح التي آلت إليها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، من دون أن يعني ذلك التشكيك في مصداقيتها وفي وطنتيها بأي حال من الأحوال.
وإذا كانت حماس قد نجحت في إثبات وجودها وفي ترسيخ أقدامها في مرحلة لاحقة، فذلك يعود أساساً إلى ضعف حركة فتح بعد تخليها عن الكفاح المسلح عقب توقيعها على اتفاقية أوسلو.
لذا، يمكن القول من دون أي تجاوز أو مبالغة إن فشل الجهود الرامية للتوصل إلى تسوية سلمية تحقق الحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني هو ما أدى إلى تقوية حماس، التي أصبحت الحركة الأكثر تعبيراً عن هذه التطلعات في "مرحلة ما بعد أوسلو"، بدليل نجاحها في الفوز بأغلبية المقاعد النيابية في الانتخابات البرلمانية الوحيدة التي جرت على الساحة الفلسطينية عام 2006.
والواقع أن بوسع أي متابع لتطور نضال الشعب الفلسطيني في مرحلة "ما بعد أوسلو" أن يلاحظ بسهولة أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بشكل عام، أصيبت بالوهن بسبب الصراعات السياسية والفكرية الحادة التي اندلعت بين أجنحتها وفصائلها المختلفة، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها دحلان وأدت إلى انفراد حماس بالسيطرة على قطاع غزة عام 2007 وفصله عملياً عن الضفة الغربية، والتي كانت في ذلك الوقت واقعة شكلاً تحت إدارة السلطة الفلسطينية، وعملياً تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي.
ولا شك أن هذا الوهن الذي أصيبت به الحركة الوطنية الفلسطينية انعكس على كل الفصائل التي تعج بها الساحة الفلسطينية، بما في ذلك حماس نفسها، بدليل ظهور جماعات مسلحة صغيرة قررت أن تعمل بشكل مستقل عن كل الفصائل الأخرى المتصارعة فيما بينها، وفشل الجهود التي بذلت من أجل تحقيق مصالحة وطنية شاملة تقوم على إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة.
ولأن "إسرائيل"، التي كانت قد اضطرت إلى الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005 هرباً من ضربات المقاومة، عادت لتفرض حصاراً شاملاً على القطاع عقب انفراد حماس بالسيطرة عليه، لم يتوقع أحد على الإطلاق أن يصبح بمقدور هذه المنظمة المحاصرة من كل جانب أن تقوم بعملية عسكرية كبرى من نوع "طوفان الأقصى" التي أعادت الاعتبار إلى نضال الشعب الفلسطيني كله.
لكي ندرك عمق دلالة ما وقع في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، علينا أن نعيد التذكير بالأوضاع التي كانت سائدة قبل هذا التاريخ.
فعلى الصعيد العربي، كانت العملية السياسية التي أطلقتها اتفاقية "أوسلو" قد انهارت تماماً وانهار معها "حل الدولتين"، وكانت الدول العربية بمعظمها قد تحللت من مبادرة بيروت العربية التي ربطت بين تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، حين قررت إبرام "اتفاقات أبراهام" قبل قيام الدولة الفلسطينية.
وعلى الصعيد الإسرائيلي، تشكلت أكثر الحكومات في تاريخ "إسرائيل" تطرفاً وعنصرية وبدأت هذه الحكومة تخطط على الفور لضم الضفة الغربية، وإعادة بناء "الهيكل" فوق أنقاض المسجد الأقصى، بل وقررت تسليح المستوطنين وتحريضهم علناً للهجوم على الفلسطينيين، ما أدى إلى تعميق الشعور لدى الشعب الفلسطيني بأنه لم يعد قادراً على الدفاع عن نفسه، أو على صيانة ممتلكاته، أو حتى على حماية دور عبادته.
وأقصى ما كان بمقدور أي من فصائل المقاومة المسلحة القيام به في الضفة الغربية، قبل انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، هو الدفاع عن النفس والصمود أمام قطعان المستوطنين الغزاة، أو صد مدرعات "الجيش" التي لا تكف عن اقتحام المخيمات، أو تنفيذ بعض عمليات المقاومة الرمزية التي تعكس استمرار إرادة المقاومة والقتال لدى الشعب الفلسطيني.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن القضية الفلسطينية كانت قد دخلت مأزقاً لا فكاك منه، وأصبحت عملية تصفيتها نهائياً مسألة وقت. وفجأة، وقعت "طوفان الأقصى" التي جرفت في طريقها كل مظاهر العنجهية الإسرائيلية وأذلت "جيشها الذي لا يقهر" ومعه الأجهزة الأمنية كافة التي كانت شهرتها قد طبقت الآفاق، وسمحت باحتجاز ما يكفي من أسرى لمبادلتهم بالمعتقلين الفلسطينيين الذين تفيض بهم السجون الإسرائيلية.
والأهم من ذلك ما جرى بعد "الطوفان". فقد عجزت آلة الحرب الإسرائيلية حتى الآن، رغم جبروتها ومساندة الولايات المتحدة غير المشروطة لها، عن كسر إرادة حماس أو إرادة الشعب الفلسطيني في القطاع.
صحيح أن هذه الآلة الجهنمية ألقت على القطاع، الذي لا تزيد مساحته على 265 كيلومتراً مربعاً ويقطنه 2.3 مليون فلسطيني، ما يقرب من 70 ألف طن من المتفجرات، تعادل قوتها التفجيرية 4 قنابل ذرية من النوع الذي ألقي على مدينة هيروشيما، وقتلت وجرحت ما يزيد على 100 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، ودمرت وهدمت معظم المساكن والمستشفيات والمدارس والمؤسسات الإغاثية والعلاجية والتعليمية، بل ومنعت الغذاء عن كل سكان غزة، مستخدمة التجويع كسلاح لإجبار سكان القطاع على مغادرته، بيد أنها لم تستطع أن تكسر إرادة المقاومة لا عند الفصائل المقاتلة التي ظلت ممسكة بالسلاح، ولا عند الشعب الذي بقي ثابتاً ومتمسكاً بأرضه.
يبدو أن من يتحدث الآن عن مسؤولية حماس عن "نكبة جديدة" حلّت بالشعب الفلسطيني ينطلق من فرضية مفادها أن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على القطاع حالياً ستنتهي حتماً بهزيمة أبشع من تلك التي وقعت في 48، وهو افتراض يجافي الواقع تماماً ويروّج للدعاية الإسرائيلية.
فما تزال حماس صامدة، رغم مرور نحو 5 أشهر على هذه الحرب، وهي لا تقاوم وحدها وإنما تقاتل من الخندق نفسه الذي توجد فيه كل الفصائل الفلسطينية المسلحة، وتساندها بقوة فصائل مقاومة شعبية في اليمن ولبنان والعراق تدرك أن الدور سيأتي عليها حتماً إذا هزمت المقاومة الفلسطينية.
ولأن شعوب العالم بمعظمها بدأت تدرك حقيقة ما يجري في المنطقة، خاصة بعد سقوط القناع عن "إسرائيل"، يتوقع أن تحتل القضية الفلسطينية صدارة جدول أعمال النظام العالمي إلى أن يتم فتح الطريق المغلق أمام إقامة الدولة الفلسطينية.
ويكفي أن نشير هنا إلى ما قام به أرون بوشنل، الطيار الأميركي الذي أشعل النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن منذ أيام، احتجاجاً على هذه الحرب الإجرامية التي تمارسها "إسرائيل" والولايات المتحدة ضد الشعب الفلسطيني، وهو حدث فريد من نوعه وغير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية.
نقطة الضعف الوحيدة في ما يجري الآن في المنطقة لا تكمن في تهور أو اندفاع حماس بقدر ما تكمن في موقف الأنظمة العربية القامع لشعوبها.
فبدلاً من استخدام قدراتها وإمكانياتها للضغط على "إسرائيل" لوقف جرائمها، إذا بها تقرر استخدام هذه القدرات والإمكانات للضغط على حماس لحملها على تقديم تنازلات لحكومة نتنياهو وبن غفير وسموتريتش. وهذا هو العار بعينه!
حسن نافعة ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً