أقلام الثبات
لم يعد النقاش في مراكز البحث والاستشراف المشهود لها في العالم يدور حول صحة, وافاق, واحتمالية, "قيام عالم جديد" على أنقاض العالم الذي كان للإمبريالية ومشتقاتها من العنصرية, بل: ما هي الصورة التي سيرسو عليها العالم الاتي؟ ومن سيكون له الباع والقدرة على ان يحتل مكانتها الطبيعية, وفق منظومة ثقافية متكاملة, أخلاقياً, وانسانيا, وبالتالي سياسيا, تحميها مقدرات القوة؟
بلا شك، المواجهة بين القديم العاجز المتخم بالشرور, والجديد المتكون من ارحام المعاناة لاستعادة الحق, ستكون غير مسبوقة، اذ سيعمد القديم المتهالك الى استخدام كل ما في جعبته من الاساليب اللاأخلاقية, بما فيها القتل الممنهج في حرب يمكن ان تسمى "حرب البقاء"، وهو ما نشهد أحد فصوله اليوم على ارض فلسطين من خلال حرب الابادة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني، من دون ان يدرك قادة الكيان الصهيوني نهاية المسار الحتمي القائم على الكراهية والحقد اللامحدود، فهؤلاء, ومن خلال الاعتقاد الواهم بان عمليات القتل والقصف والتدمير يمكن ان ترمم مفاهيم ثقافية وامنية وعسكرية, وهي في اصلها سياسية مصنعة خلافاً للطبيعة, ومن دون ان تدرك ما سيكون خلف الافق, جراء المكابرة لانهم يعلمون ان المنظومة التي ترعرعت عليها "اسرائيل" برعاية الغرب الشوفيني قد تحطمت الى غير رجعة, ولم يعد بالإمكان اعادة تجميع الركام للترميم.
لقد اسقط يوم 7 اكتوبر المجيد بكل مفاعيله الصورة المتخيلة التي كونها الغرب المتوحش عن الكيان الصهيوني بمده بكل وسائل القتل والدعاية المضللة, بان "هذه الاسرائيل" قوة اقليمية لا منافس لها, بل قوة عالمية, وانه الراعي لكل ما تقوم به, حتى وصل به الامر اعتبار هذه الكيان امتداد طبيعي له, ولذلك فانه عمد الى ترسيخ الصورة التي ارادها للكيان في اذهان العرب اولا, ان "اسرائيل" قادرة على فعل ما تريد وساين تشاء وساعة تشاء, مع نصائح صورية بتهدئة الوحشية او الاقلال منها مقابل "الحفاظ على تفوقها الاستراتيجي" عبر حظوتها بكل سلاح حديث, يزيد من جشعها الى القتل وبمزيد من الاموال لاستجلاب مستوطنين جدد لضخهم في جيش القتلة.
من الواضح وضوح الشمس ان المقاومة الفلسطينية الاتية من رحم الشعب الفلسطيني على ارضه, وليس كما المستوطنين المستجلبين من كل اصقاع الارض, تمكنت بعزيمة فولاذية, مرفودة بأنصار الحق والحقيقة في محور المقاومة من خلال جبهات الاسناد والاستنزاف للعدو المشترك, وعدو الانسانية من تبديد صورة الكيان المتخيلة غربيا في بانها باتت ومنذ زمن قادرة على حماية مكوناتها امنيا وثقافيا, وتحطيم العنجهية, واستفاق الجمهور الموهوم على كابوس سيبقى حاضراً، بان جيشهم ودولته ليسا القوة المغروسة في الاذهان, بل انهما مرتبطان بشكل عضوي ومطلق بأميركا خصوصا والغرب العنصري عموما, رغم المكابرة المتواصلة فصولا, مصحوبة بفظائع القتل والابادة، ومن ضمن محاولات اخفاء مشاعر الاحباط واليأس لدى العامة, وانعدام الثقة بالرؤوس الحامية.
لقد جربت كل حكومات الكيان منذ انشائه على ارض فلسطين بقرار امبريالي عنصري, كل وسائل القتل والترويع لكسب حجر الزاوية للكيان وهو الامن للمستوطنين المستجلبين بالإغراء, الا ان الحجر تناثر وبددته ريح المقاومة, وبقي عنصر الخوف وارتفع منسوبه الى الاعلى لان المستوطنين أدركوا في اعماقهم بعد التجربة المذبلة لجيشهم انهم محتلون, والمحتل لا يمكنه التملك والسطو على الحقوق بمرور الزمن.
يقول د. تومر فريسكو، الباحث في جامعة رايخمان، هذه الحرب، كما يقول فريسكو، مختلفة بكل المقاييس فهي حرب طويلة ومؤلمة بدأت بضربة مفاجئة ولن نخرج منها إسرائيل بفرحة عارمة، بل بإحباط، وهو ما يؤكده البحث الذي أجراه مركز الصحة النفسية في "معهد روبين الأكاديمي"، الذي أظهر أن 45% من السكان البالغين في "إسرائيل" أصيبوا بالاكتئاب بعد السابع من أكتوبر، وأن 30-43% أصبحوا يعانون بنسب متفاوتة من الخوف وضيق ما بعد الصدمة، ما يعني أن ما يقارب نصف سكان إسرائيل يعاني من مستويات مرضية من الاكتئاب.
باختصار: ان النموذج الذي يشاهده العالم كله, ساعة بساعة, هو لب واعصاب العالم الجديد المنتظر, والذي يتكون بمتانة مهما طالت الحرب او قصرت, وكلما كانت الحرب أقسى واشد, كلما كان طعم الانتصار الذ واقوى وأكثر, ليوازي صدى الاندحار والانهيار.
استحالة واقعية في تجميع الركام "الإسرائيلي"ــ يونس عودة
الثلاثاء 06 شباط , 2024 08:33 توقيت بيروت
أقلام الثبات
مقالات وأخبار مرتبطة