المشهد الاستراتيجي الجديد

الجمعة 26 كانون الثاني , 2024 10:17 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

يستطيع الأميركي إنكار إصابة إحدى سفنه الحربية في المواجهة التي دارت مع أنصار الله في خليج عدن، لكنه لا يستطيع إنكار أن السفن الحربية أبلغت السفن التجارية الأميركية التي تم التدخل لضمان عبورها الآمن في البحر الأحمر خلافاً لتوجيهات أنصار الله، بأن عليها الانسحاب وتغيير وجهة سيرها، وأن هذا ما حصل فعلاً؛ لأن القيادة العسكرية الأميركية هربت من مواجهة تخشى تحوّلها إلى حرب لا تريدها وتضطر للتورط فيها بمجرد وقوع خسائر بشرية في صفوف بحريتها. كما تستطيع واشنطن أن تقول بأنها سوف تقوم بالرد على كل هجوم تتعرض له قواعدها في العراق وسورية، وأن ينكر بعض قادتها العسكريين، خصوصاً المستفيدين في قيادة المنطقة الوسطى من بيع كميات النفط السوري المنهوبة بحصص يتقاسمونها تبلغ مئات ملايين الدولارات، أن هناك انسحاباً أميركياً من سورية او العراق، لكنهم لا يستطيعون إنكار أن رسالة رسمية اميركية وصلت الى الحكومة العراقية تعلن الموافقة على تشكيل اللجنة العسكرية الثنائية لوضع جدول زمني لإنهاء مهمة قوات التحالف الدولي وفقاً لطلب الحكومة العراقية، وأن واشنطن تراجعت عن شرط وقف العمليات ضد قواتها لبدء البحث بالانسحاب، مكتفية بحق الرد على الهجمات التي تتعرّض لها خلال التفاوض.
في الشكل مزيد من العنجهية الكلامية الأميركية، وفي الجوهر خضوع لجدول أعمال قوى المقاومة التي تقول إن المطلوب في البحر الأحمر هو منع عبور السفن المتجهة الى موانئ كيان الاحتلال. وقد أضيفت اليها بعد العدوان الأميركي البريطاني على اليمن، السفن الاميركية والبريطانية. وهذا ما تحقق، ومثلها قالت المقاومة العراقية إن المطلوب هو الانسحاب الاميركي من العراق، وهذا مضمون ما تتعهد الرسالة الأميركية بأنه سوف يحصل، وعندما يحصل الانسحاب من العراق يصبح الانسحاب من سورية تحصيل حاصل. وهذا ما قصدته التسريبات الأميركية المشتركة للبيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع عن أن الوجود الأميركي في سورية لم يعُد ضرورياً، لأن الوجود في سورية عسكرياً ولوجستياً هو مجرد امتداد للسان جغرافي خارج العراق عمقه هو القواعد الأميركية في العراق، ولا يمكن حمايته أو تخديمه إذا انسحبت القوات الأميركية من العراق.
عملياً ما يجري على ضفة المقاومة في غزة في المواجهة مع جيش الاحتلال، ليس بعيداً عما يجري مع الأميركيين، لأن الإسرائيلي الذي يتحدث عن مواصلة الحرب يعرف حجم خسائره العسكرية المتنامية ويعرف تردي أداء جيشه، ويعرف أن الرهان على إنهاء حركة حماس وقوى المقاومة، هدف بات يثير السخرية، لدرجة أن واشنطن تحدثت علناً بلسان جون كيربي الناطق بلسان مجلس الأمن القومي عن استحالة تحقيقه، وأشارت الى ان المطلوب ضمان عدم عودة حماس الى تكرار ما جرى في طوفان الأقصى. وبدا أن بنيامين نتنياهو رد بطلب هذه الضمانات موقعة، بدلاً من أن يقول بأن القضاء على حماس ممكن ومستمر كهدف. وهذا معنى قوله إنه “إذا قرر القبول بإنهاء الحرب فهو يشترط الحصول على ضمانات دولية موقعة غير قابلة للانتهاك”.
على جبهة لبنان، لم يأت الأميركي بعروض من عندياته، لأن الإسرائيلي هو من زوّده بعرض يقوم على الاستعداد للانسحاب من النقاط العالقة على الحدود والتي يعتبرها لبنان حقوقاً له، سواء النقطة الخاصة برأس الناقورة أو سائر النقاط الثلاث عشرة، وصولاً للانسحاب من خراج بلدة الماري المعروف بالجزء اللبناني من بلدة الغجر، وانتهاء بمزارع شبعا وإيجاد صيغة مؤقتة بتسليمها لوحدات من الأمم المتحدة. والفارق بين منطق كل من الطرفين اللبناني والاسرائيلي هو على التوقيت، الإسرائيلي يريد الترتيب الجديد لضمان الاستقرار والتهدئة لإخراج لبنان من مساندة غزة وشعبها ومقاومتها. والمقاومة في لبنان ومعها الحكومة تشترط لبدء البحث بترتيبات حدودية أن ينتهي أولاً العدوان على غزة، والخلاف جوهري طبعاً وليس بسيطاً، لكن عندما يصبح الاسرائيلي ناضجاً لقبول صيغة وقف الحرب على غزة، وفق كلام نتنياهو التمهيدي، فلن يستطيع التهرّب من الحاجة لضمان عودة مستوطني الشمال الذين هجروا وفتح الباب مجدداً لصيغة التهدئة على الحدود وضمان الاستقرار فيها بترتيبات تتضمن الانسحابات التي يريدها لبنان وتعمل المقاومة على انتزاعها.
بصورة منفصلة المسارات تتبلور أمامنا صورة بات فيها الخطاب الأميركي الإسرائيلي على أرضية الاستجابة لمضمون حرب الاستنزاف التي يشنها محور المقاومة على جبهاته المختلفة. وهذا لا يعني أننا اقتربنا من نهاية الحرب، فما يريده الأميركي والإسرائيلي بعضه غامض، كضمانات نتنياهو، وبعضه غير ناضج للبحث ويتضمن ملفات معقدة وشائكة، وتحتاج وقتاً لا تتيحه الحرب المتسارعة والضاغطة ومفاعيلها، مثل مستقبل غزة والقضية الفلسطينية. وهذا يعني أننا ندخل المرحلة الأشد صعوبة وتعقيداً في الحرب، وموازين التفاوض والمواجهة سوف تترافق معاً، ومحور المقاومة الذي نجح بنقل الحرب إلى مائدة التفاوض على أساس جدول أعماله، أمام تحدّي وحدة ساحات التفاوض ببراعة تشبه براعة وحدة ساحات القتال، الوحدة والاستقلال معاً، لكن تحقيق ذلك في التفاوض أشد صعوبة منه في القتال، ولن يكون عرضة للمزايدات كحال وحدة الساحات القتالية فقط، بل ربما يواجه تضارب الأجندات الوطنية للساحات ما يحتاج أعلى درجات التنسيق والعناية في رسم الأولويات، التي لا يزال بالنسبة لمحور المقاومة، عنوانها فلسطين، بينما سوف يسعى الأميركي والإسرائيلي إلى تخفيض الثمن الفلسطيني ما أمكن مقابل إغراء رفع الثمن خارجها، لأن الأميركي يكسب كلما بدا أنه يصنع استقراراً إقليمياً شاملاً لكل الساحات، ويجذب قوى دولية مثل روسيا والصين إلى المائدة، ويكسب هو ويحمي الإسرائيلي من خطر السقوط كلما خفض كلفة الهزيمة على “اسرائيل”.

 

ناصر قنديل ـ البناء

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل