محور المقاومة واستراتيجية النفَس الطويل.. مأزق سياسيي الكيان

الإثنين 13 تشرين الثاني , 2023 09:21 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

منذ نشأته، نجح الكيان الإسرائيلي في أن يكيف قدراته العسكرية مع متطلبات البيئة الاستراتيجية التي تحيط به، بحيث تمكن من بناء قدرات عسكرية تتميز بسرعة الحركة والحسم في مواجهة التكتيكات الكلاسيكية للجيوش العربية التي انتظمت في إطار تقليدي، أسسته قوى الاستعمار، بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال تأطير عملية استقلال تلك الدول على نحو يخدم مصالحها وتوجهاتها.

وإذا كانت الدول العربية، التي استقلت في تلك المرحلة، تبنّت مساراً تقليدياً في محاولة بناء نظمها الحاكمة من خلال ترتيب واقع توازناتها الداخلية انطلاقاً من مفاهيم الوراثة والعشيرة، فقد أدى ذلك إلى تقييد بنيانها العسكري ضمن أطر الولاءات العشائرية، التي لا تراعي الكفاءة والمهنية، ولا المعايير الوطنية الضرورية لمسار بناء الدولة الحديثة. فالمثال الأردني لناحية تقليد البريطاني غلوب باشا قيادة الجيش الأردني، بين عامي 1939 و1956، وقيادته الجيوش العربية مجتمعة في حرب عام 1948، أمرٌ يُعَدّ دليلاً على فقدان الدول العربية في تلك المرحلة مقومات بناء جيوش وطنية قادرة على أن تتبنى عقيدة وطنية أو قومية حقيقية، تشكل مدماكاً تستند إليه عند قيامها بمهمّات حماية أوطانها.

وإذا كان تبرير نكبة فلسطين استند إلى مجموعة من الأسباب التي سوّقها الإعلام العربي، لناحية تفوق القوة الصهيونية، والدعم المطلق لها غربياً وبريطانياً، بالإضافة إلى ما أجمعت عليه مذكرات القادة العرب العسكريين في تلك المرحلة من أسباب، كالمؤامرة الغربية وتردي القيادة السياسية، فإن المرحلة التي لحقت لم تدلل على تغيّرات يمكن أن تُفهم على أنها محاولة لاستخلاص العِبَر والدروس من تلك المرحلة.

فإذا تخطينا نتيجة حرب عام 1967، مع الإشارة إلى أنها تقدم دليلاً ملموساً على ترنح الأنظمة العربية في مستنقع الفشل وعدم القدرة على مجاراة الكيان في تكتيكاته واستراتيجياته، فإن حرب عام 1973 وما تلاها من معاهدات سلام، تفرّد الكيان ومن خلفه الغرب بإبرامها مع كل دولة على حدة، أمرٌ لا يُدلل إلا على غياب استراتيجية موحَّدة يمكن أن تشكل نقطة قوة وانطلاقة في مشروع هزيمة الكيان واستعادة فلسطين.

بناءً عليه، كان غياب التنسيق بمثابة سمة حاكمة للأنظمة العربية منذ قيامها، بحيث إنها لم تبحث في كيفية تكريس موقف موحد يعكس ما تمتلكه من قدرات قد تكون مفيدة في مواجهة الكيان.

فالمواجهة التي وقعت بين الأنظمة العربية والكيان الإسرائيلي، انطلاقاً من حرب عام 1948 وما تلاها عامي 1967 1973، أظهرت أن انغماس العرب في المواجهة لم يتخطَّ حدود التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى أن كل الدول العربية عبّرت علانيةً عن رفضها تلك القرارات.

فإذا تخطينا نكسة عام 1967، بحيث تمكّن الكيان في حرب خاطفة من هزيمة دول الطوق مجتمعة، إذ ألحق بجيوش مصر والأردن وسوريا هزيمة مدوية، يشير عدد كبير من المؤرخين، ومنهم يهود، إلى أن أسباب الهزيمة التي مُني بها العرب عام 1948 تخطت القوتين العسكرية والتنظيمية، اللتين ميزتا العصابات الصهيونية، لتطال واقع الأنظمة العربية، بحيث إنها افتقدت وجود مشروع متفق عليه، بدءاً بما أمكن لمسه من مصالح متضاربة لكل بلد، وصولاً إلى المنافسة بين العروش التي ظهرت في تلك المرحلة بين ملك الأردن عبد الله بن الحسين والملك فاروق، الذي كان حاكماً لمصر.

وإذا قفزنا إلى حرب عام 1973، فإن ما ظهر في الجبهة المصرية، حين استغل الرئيس المصري مجريات المعركة ونتائجها في تحقيق سلام منفرد مع الكيان الإسرائيلي من دون التنسيق مع سائر الدول العربية أو حتى إعلامها بمخططاته، يؤكد صحة ما سبق

يمكن القول إن الفترة، التي قادت فيها الأنظمة العربية مشروع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كانت فترةَ ذهبيةً للكيان الإسرائيلي، بحيث استطاع أن يتحكم في مسارات الصراع والتسويات على نحو يحقق مصالحه ويساعد على بناء استراتيجيات ردعه من دون أي معوّقات. ومن خلال تاريخ الصراع مع الكيان الإسرائيلي، يمكن ملاحظة أن الفترة التي شهدت صعود حركات المقاومة الشعبية أثّرت في الوعي الإسرائيلي لناحية ارتفاع منسوب الخطر لديه.

فالواقع، الذي كرسته حركات المقاومة، أرسى إمكان إلحاق ضرر، ليس فقط في جيش الكيان، وإنما في جبهته الداخلية، بحيث إن توالي العمليات الفدائية داخل مدن الكيان ومستعمراته، بالإضافة إلى تلك التي كانت ولا تزال تستهدف مواقعه العسكرية، أنهت بالتدريج مرحلة الأمان، التي نجح الكيان في إرسائها منذ قيامه، لناحية قدرته وحده على المبادرة أو الحسم. وإذا ربطنا ذلك بما استطاعت حركات المقاومة أن تحققه من معادلات ردعية نتيجة قدراتها الصاروخية، التي تدرجت حتى وصلت إلى مستوى تهديد عمق الكيان من خلال سعي وجهد، عمرهما من عمر تلك المقاومات، فإن ذلك يدلل على نجاح المقاومة في ابتكار أسس تطبيقية لما يمكن تسميته استراتيجية النفَس الطويل، والتي ترتكز على إشغال العدو وإنهاكه في انتظار اللحظة الملائمة للانقضاض عليه وتدميره.

في خطابه الأخير، لم يُخفِ سيد المقاومة الإسلامية في لبنان، السيد حسن نصر الله، تمسكه بهذه الاستراتيجية، بحيث إنه قدم دليلاً واضحاً على قدرة المقاومة على تفادي الانجرار إلى معركة يحدد شكلها وتوقيتها وساحاتها قادة الكيان الإسرائيلي.

وفي مقابل ذلك، استطاع سيد المقاومة في خطابه أن يُغرق قادة الكيان في بحر من الحيرة وعدم القدرة على تقدير حقيقة موقفها الحقيقي وما تضمره. وإذا حاولنا أن نقوّم الواقع الإسرائيلي، وما يعترض حكومة الكيان من تحديات تمنع إمكان تحقيق ما يمكن أن تُظهره على أنه من الإنجازات، فإن افتقاد الكيان القدرة على تحييد جبهته الداخلية، بالإضافة إلى عدم قدرته على التحكم في مسارات الحرب، لناحية التوقيت أو توسع رقعتها الجغرافية أو مستوى التصعيد، بالإضافة إلى عدم تمكّنه من استغلال ما يرتكبه من مجازر بحق المدنيين في مسعاه لتحقيق نصر سياسي، تدلل كلها بوضوح على ترديه.

بناءً عليه، تَظهر واقعية محور المقاومة، من خلال إصراره في هذه المرحلة على تحقيق نصر بالنقاط، على نحو يؤكد سعيه وجهده لإفشال مسعى الكيان الإسرائيلي لترجمة حرب الإبادة الجماعية التي يشنها ضد الشعب الفلسطيني في غزة انتصاراً سياسياً.

وبالتالي، يُظهر محور المقاومة إصراره على إدارة صراع طويل الأمد ترتكز أسسه على إضعاف الكيان من خلال ضعضعة استراتيجية الردع وإفشال مخططاته، ومنعه من تحقيق أهدافه المعلنة، بالإضافة إلى بث اليأس في قلوب مستوطنيه، ومضاعفة الجهد المبذول على مستوى الإقليم، والذي ينصبّ بالتوازي على بناء أسس محور مقاوم متكامل الأسس والرؤى، وعلى محاصرة حلفائه وعدم تمكينهم من الشعور بالأمن والاستقرار، من خلال عمل منظم يجمع بين ضربات عسكرية موضعية ومسار سياسي منظم يستهدف عاملي الأمن والاستقرار، اللذين كانا نتيجة مرحلية كرسها السلوك العربي العشوائي، الذي رأى الولايات المتحدة ضامنةً للأمن والاستقرار، متناسياً حقيقة رسم الولايات المتحدة خريطة علاقاتها الدولية والإقليمية انطلاقاً من مصالحها وأمنها القومي من دون إيلاء أي اهتمام أو أهمية لهواجس دول الإقليم العربية وقضاياها.

 

وسام اسماعيل ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل